نظرات في أسلوب تخليد المقاومة / سيد المختار ولد أربيه

أحد, 12/06/2015 - 18:20
سيد المختار ولد أربيه

فى كل عام مع اقتراب شهر نوفنبر، وعلى امتداد ساعاته وأيامه، تطلق وسائل الإعلام  ، منذ سنوات، حملات إعلامية ضخمة متواصلة مرئية ومسموعة ومكتوبة عن المقاومة يُعدّ من أهدافها الأساسية الإساءةُ إلى بعض الرموز الوطنية بشكل سافر ووقح، عن قصد، ووعى تام، وسابق إصرار، وخصوصا الإمام

المجدد محيى السنة الشيخ سيدى بابه، ثم على منطقة  "القبلة" عموما، ويجند لذلك طائفة من المتحدثين فى برامج وندوات وحوارات مختلفة.
ولو أن الحديث فى هذه الحملات الممنهجة والموجهة قصِرعلى مقاومة الاستعمار، وأبطال المقاومة، ومعارك المقاومة، دون إساءات صريحة وضمنية إلى الشيخ سيدى بابه شخصيا لكان ذلك الحديث موضع إجماع.
لكن لا يخلو الحديث فى أىّ حلقة من حلقاته المرئية والمسموعة من الإساءة إلى هذا الإمام العلم  المجتهد المطلق المصلح، محيى السنة وقامع البدعة، رضى الله عنه وأرضاه.
وأيضا لوعُرض موقفه، رحمه الله، بأمانة  وتجرد، بوصفه اجتهادا فقهيا له وجاهته، ومسوغاته الشرعية، وسياقه التاريخىّ الخاص، ثم خالفه ضيوف نوفنبر، لما كان فى ذلك بأس.
ولو ذكروا من وافقه من العلماء والمشايخ والأمراء، ومن رجع منهم ـ وهم الأغلبية ـ إلى موقف الشيخ بعد معارضته أول الأمر، لكان فى ذلك شىء من الإنصاف.
ولو تعرض المتحدثون إلى الجوانب الإيجابية ـ فى رأى الشيخ وموافقيه ـ كإحلال السلم تدريجيا، وإيقاف السيبة، وإلى اهتمامه الجاد والموثق، فى رسائله، باستقلال البلاد، ونفى تبعيتها بشكل قاطع  للمغرب والسودان الفرنسىّ معا،  ـ وهو مبدأ تابعه عليه مَن بعده  أبنائه ومحيطه ـ كما هو معلوم ـ لو ذُكر شىءٌ من هذا  لكان من الموضوعية والأمانة بمكان.
ولكن الأغلب أن يُتجاهل ذلك كله، إلا أن بعض هؤلاء الموجَّهين يذكر على استحياء شخصا أو اثنين ممن وافقه، ثم تعْرض مواقف الشيخ سيدى بابه وآراؤه وأحداث عصره مشوَّهة مبتورة ومفصولة عن سياقاتها وملابساتها ودوافعها ومسوغاتها، عمدا ومكرا، ويُخَصّ الشيخ بالتجريح والإساءة، ويُغَضّ الطَّرْف عن موافقيه من أهل العلم والرأى لأسباب غير مجهولة، وغير خافية على أحد.
كما أنه من الغباء والجهل أن يحَمِّله بعض المحاضرين والكُتّاب وِزْر استقدام الفرنسيين من وراء البحار!
وأنت لو سألت أحد هؤلاء المتحدثين أو غيرهم من المتفقهة الرسميين أو التقليديين من ضيوف نوفنبر ومن على شاكلتهم عن حكم الجهاد فى العالم الإسلامىّ اليوم، لقال لك بداهة: إنه لا يجوز  لضعف المسلمين، واختلاف كلمتهم، وفقرهم، وتخلفهم، وضعف سلاحهم، وعدم وجود بلد خال من سيطرة الكفار ظاهرا أو باطنا؛
ولقال لك: إن للجهاد شروطا كثيرة، منها كذا وكذا...ولبدأ يعددها لك الواحد تلو الآخر...
وقد سمعنا منهم هذا الكلام بلفظه ومعناه أكثرمن مرة، فى وسائل الإعلام المشار إليها.
فإن قلت لأحدهم: هل كان لبعض الدول الإسلامية كالعراق وأفغانستان ـ مثلا ـ الحق فى التصدى للقوات الأمريكية الغازية ولجيوش حلفائها الزاحفة التى جاءت إليها لغرض حربىّ تدميرىّ بحت؟
قال لك: لم يكن لهم الحق فى ذلك، لأنه لا طاقة لهم بآمريكا وأسلحتها المدمرة، وترسانتها النووية، وقوات المارينز التى تبيد الشعوب، وتدمر كل شىء أتت عليه، ولا أحد يستطيع أن يدافع عنهم من المسلمين!
وكذا يكون الكيل بمكيالين!
ثم لو قلت له: لِمَ لمْ تشنع على علماء السعودية من هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء وغيرهما من الدوائر العلمية هناك فى الإفتاء بجواز استقدام الآمريكان وقوات التحالف لضرب العراق، حين أوجسوا خيفة من  الرئيس صدام حسين ، ورأوا أنه يهدد أمن بلادهم واستقرارها، لقال لك: إنه من باب الضرورة!
ولو قلت له: ألم يلجأ أهل ليبيا إلى حلف الناتو لإيقاف  القذافىّ عند حده، والضرب على أيدى جنده ؟ لو قلت له ذلك لاعترف بما حصل، ولقال لك: إنه من باب الضرورة، والمصلحة، وارتكاب أخف الضررين!
ولقال لك: ألم يرحب بهم ثوار الشعب الليبىّ نفسه ويقل يومئذ رموزٌ من قيادات العمل الإسلامىّ وبعض رؤساء القبائل فى ليبيا: إن مجىء الروم لمساعدتهم والقتال معهم ضد المفسدين فى الأرض نعمة من الله ورحمة؟...
ولو قلت له: أما تذكر فتوى العلامة الشيخ محمد الأمين الجكنىّ: آبه ولد اخطور التى صرح فيها بأن النصارى (الفرنسيين) خير لأهل هذه البلاد يومئذ من بعضهم  لبعض، وأنهم آمنوا الناس من خوف، وأن ضرائبهم كلا شىء إذا ما قورنت ببلايا السيبة من قتل ونهب وسلب ونخاسة...؟
أما تذكر أنه أفتى بسقوط الجهاد يومئذ عن أهل هذه البلاد، لعجزهم، وانعدام الناصر لهم  من أهل الإسلام، وجواز مداراة المحتلين المتغلبين، وعقد الهدنة معهم؟
لو قلت له ذلك كله لاعترف به، ولقال لك إنها فتوى صحيحة لأن الشيخ آبه "واحد من أهل الشرق"!
ولو قلت له: إن العلامة الشيخ محمد حبيب الله ولد ما يابى اعترف بعد هجرته إلى الحجاز بأَصْوَبِيّة رأى الشيخ سيدى بابه، وأثنى عليه، وزكَّى موقفه من اللصوص المحاربين، ومن النصارى المتغلبين، لقال لك: هذا صحيح، لأن الشيخ ابن ما يابى "واحد من أهل الشرق"!
ولو قلت له: إن الشيخين العالمين الجليلين سيد محمد ولد حبت الغلاوىّ وعبد القادر بن محمد سالم المجلسىّ اقتنعا برأى الشيخ سيدى بابه، بعد معارضته أولَ الأمر، لقال لك: لا يضرهما ذلك لأنهما من "أهل التل"!
وسيقول لك إذا ذكرت له موقف الشيخ سعد أبيه المهادن الذى سلَّم فتوى الشيخ سيدى بابه شعرا ونثرا ـ : لا يضره ذلك لأنه أخو الشيخ ماء العينين! مع أن الخلاف بين الأخوين كان حادا، ورسالة الشيخ سعد أبيه إلى الشيخ ماء العينين خير دليل على ذلك.
ولأضاف: هذا من باب الضرورة، والدفاع عن النفس.
وكذا يكون الكيل بمكيالين مرة أخرى!
ثم ماذا عن تطبيل متفقهة نوفنبر، ومتفقهة النظام عموما، للعلاقة مع اليهود، وفتح  الأبواب على مصاريعها لإخوان القردة والخنازير، ودفاع كثير من الأئمة والروابط العلمية الدائرة فى فلك النظام يومئذ عن تلك العلاقات الخبيثة؟
ألا تذكرون معى أن كثيرا من المتكلمين اليوم من متفقهة وإعلاميين عن المقاومة والجهاد والتحرر هم من هذه الفئة؟!
ألا تذكرون أنهم دافعوا عن محتلى الأرض المباركة، وسوغوا العلاقة الحميمة مع مدنسى الأقصى أولى القبلتين ومسرى خير الثقلين، بكل ما أوتوا من حجة وبيان؟
سيقول بعض هؤلاء: كانت العلاقة مع اليهود للضرورة، لأن ا   لنظام عليه أن يحافظ على نفسه، ولا يتم له ذلك إلا بمؤاخاة اليهود!
وكذا يكون فهم الضرورة فى الشريعة!!!
أىّ عذر هذا؟ وأىّ فقه؟ وأىّ عقل يمكنه أن يتحمل مثل هذه السلسلة من الإجابات المرذولة؟
إن  متفقهة البلاط وغيرهم من الساسة والإعلاميين المعنيين بهذه الملفات: ، اليهود، والسجون، والتزوير، والاختلاس، والتجسس، والنفاق والتزلف، والتلاعب بالدين والمبادئ، وسَجن العلماء والدعاة، وتسويغ أعظم المخالفات الشرعية (تعطيل الشريعة) معروفون واحدا واحدا، وكلامهم محفوظ وموثق بالزمان والمكان.
فأين هذا من ذلك الواقع، ومن تلك الظروف؟
وأىّ تناقض يفوق هذا التناقض الصارخ الفاضح؟!
وكيف يصدَّق هؤلاء فى محبة الجهاد والمجاهدين؟
أمثل هؤلاء يدافعون عن الجهاد والمجاهدين، وعن المقاومة والمقاومين؟
ألا يعلم كل هؤلاء أن تصنيف عصابات السيبة التى تستحل دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ظلما وعدوانا، وبغيا فى الأرض وفسادا، ـ قبل مجىء الاستعمار بدهور متطاولة ـ بأنهم إرهابيون، أولى من وصف غيرهم بالإرهاب! وأنهم أولى بكل وصف هجين من كل من يرفع راية الجهاد اليوم مهما ارتكب من أخطاء؟
إنه يجب على باحثينا ومحاضرينا توخى الموضوعية والإنصاف والصدق والأمانة، وأن يتحلوا بالشجاعة والنظافة الفكرية، وأن يزِنوا القضايا بعدل وقسط، بعيدا عن الخيانة والتهويل والمبالغات والإساءات. 
أنا لا أدافع عن الاستعمار، ولا أتنكر للجهاد فى سبيل الله ـ معاذ الله ـ ، ولا لمقاومة الشعوب لمن أراد احتلال بلادها، ولا أنا بالجهوىّ أو القبلىّ، ولا بالذى يدعو إلى التمييز على أساس العرق أو الفئة, ولكن لا أتجاهل حال البلاد إبان مجىء الفرنسيين، و أنه لم يكن بالإمكان إقناعهم بالرجوع إلى بلادهم، وأنه لا شيخ ولا أمير مهما عظمت منزلته يستطيع أن يأتى بهم، وإلا فمن جاء بهم إلى البلاد المجاورة وغيرها من أنحاء الدنيا؟ كما أننى لا أدعى الفقه فى الدين، وإن كنت أعلم أن من بين علماء الأمة من يجيز الاستعانة بالكافر على المحاربين عند الحاجة، وأنهم يذكرون على ذلك بعض الأدلة، وأن حال الاختيار غير حال الاضطرار...
وبالإمكان ذكر وقائع السيبة وفظائعها، بأسماء القبائل والمجموعات المغيرة، وأسماء القبائل والجهات المستهدَفة، وتحديد المكان والزمان، قبل مجىء الاستعمار وبعده، لتوفر الوثائق والروايات الصحيحة، والبرهنة بشكل قاطع على الطابع اللصوصىّ لتلك الممارسات، وعلى أسلوب الحراية الممنهجة والجريمة المنظمة، فى تلك العمليات. لكن أرجئ ذلك إلى حين.
إن المتتبع لمسار حملات نوفنبر ، وما يلاك فيها من قيل وقال، يدرك مباشرة، وبدون شك يخالجه، أنها موجهة من قبل جهة معينة  لغرض معين، ويجد أن أغلب المتحدثين يتخذها وسيلة،
وينتهزها فرصة لبلوغ مآربه سبّا وتشفِّيا، محتميا بجهة ما فى إساءاته إلى بعض الرموز والجهات.
وبوصفى أحد المراقبين والمتابعين لهذه البرامج، فإنى أرى فى هذا التصرف الأرعن مساسا بكرامة رموز وطنية وشخصيات جليلة قدمت لهذه البلاد مالم يقدمه غيرها ونيلا من شرفهم، وأتشوف إلى مراجعة أساليب الطرح وتحليل الأحداث بأمانة وموضوعية عبر وسائل الإعلام ، وأعلن استيائى البالغ من التجريح الممنهج، وألفت الإنتباه ا إلى أن هذه الطريقة فى تخليد المقاومة طريقة سيئة بكل المقاييس، وأذكّرالمتحاملين علي الشيخ سيدي بابه بأن المقاومة من بيت آل الشيخ سيدى انطلقت، ومن فكرها وعلمها وأدبها ونظرها السديد انبثقت، من يوم هجوم النصارى على الشيخ سيدى الكبير يوم الركبة، ومن يوم كتب رسالته الشديدة اللهجة إلى "فضرب أمير اندر" (افيدرب)، ومن يوم عقد مؤتمر تندوجه، وصاغ ابنُه  الشيخ سيد محمد رائيته الرائعة الشهيرة قائلا فى صلبها:                                                                                 
حماة الدين إن الدين صارا/ أسيرا للصوص وللنصارى          
فإن بادرتموه تداركوه/ وإلا يسبقِ السيف البــــدارا                  
وهذه الأسرة الكريمة لا تشعرـ لله الحمد ـ بأىّ عقدة تساروها تجاه الجهاد الحق والمجاهدين الصادقين.                                                                                         
                                                                                       
وأخيرا أختم لهؤلاء وأولئك جميعا مقالتى بمقطع من فتوى للشيخ إبراهيم ين يوسف بن الشيخ سيدىَ حفظه الله تعلى، يقول فيه:
"هذا، ولا يختلف مسلمان فى فضل الجهاد فى سبيل الله عز وجل، وأنه ذِروة سنام الإسلام، وأن الله تعلى فضل المجاهدين على القاعدين، وأن من كان معذورا من المسلمين، فلم يجاهد لعذره، مع محبته للجهاد، وحرصه على إعلاء كلمة الله، فهو مع المجاهدين فى درجاتهم وأجورهم، وأن الشهداء عند الله عز وجل فى المنزلة الرفيعة، لهم أجرهم ونورهم، وأن الجهاد فى الشرع هو بذْل الجهد فى قتال الكفار لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعلى، وأن جهاد الطلب فرض على الكفاية، وأنه يجب عند توفر شروطه، وأنه إن انخرم منها واحد سقط وجوبه، وأن جهاد الدفع فرض على الأعيان، وأنه لا يُشترط فيه شىء من شروط جهاد الطلب، فمن هجم عليهم العدو الكافر تعين عليهم الدفع عن أنفسهم إن قدَروا، وأنهم إن عجَزوا تعين على من يليهم من المسلمين نُصرتُهم إن استطاع أولئك أيضا، وأن للمسلمين عند العجْز والاستضعاف عقدَ الهدنة والصلح مع الكفار ، وأن ذلك لا يكون إلا لمصلحة الإسلام والمسلمين، فهو جائز عند الحاجة، من ضعف  وعدم ناصر  وصريخ، وأن المسلمين إن كانوا فى حال الاستضعاف وجب عليهم إعدادُ العُدة للجهاد، وإن كانوا قادرين وجب عليهم القتال بحسب الحال، وأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة مع كل بَرّ  وفاجر حتى يقاتل آخرُ هذه الأمة الدجال.
فمن الجهالة إيقافه عند مرحلة معينة، وإنصاف المرء نفسَه وأهلَ عصره بالعجز عنه، ودعوى وجوبه على من لا يعلم حقيقة حالهم ممن بيّنوا عذرهم بالأدلة الشرعية، مع أنهم لا يخطئون أحد أمرين: إما الإصابة، فهم مأجورون أجرين، وإما الخطأ، فهم مأجورون أجرا، ومعذورون عند الله عذرا.
ومن الجهالة أيضا غض الطرف عن العلاقة مع بعض الكفار المحتلين،وتشنيعها مع صنف آخر منهم! والكفر كله ملة واحدة.
وإنه لحرىّ بالمسلم الصادق، فى كل زمان ومكان، أن يجاهد إن استطاع، أو ينصر الجهاد والمجاهدين على الأقل. كما يجب أن يكون جهاده ونصرته لله وحده، إعزازا لدينه، وتمكينا لشرعه، وإقامة لدولة الحق على أرضه.
أما أن ينصر  طائفة أو أهل بلد بعينه لحميّة أو لمعنى غير ما ذكرنا، ويخذل غيرهم من المجاهدين الصادقين الذين يقاتلون الكفار لتكون كلمة الله هى العليا، فذلك تناقض وازدواجية فى المعايير، وموقف لا معنى له شرعا ولا عقلا.
فالكفر هو الكفر أينما كان وكيفما كان". اهـ
وعلى الله المعوّل والمتكَل، وهو حسبنا ونعم  الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلىّ العظيم