السهل الممتنع / بقلم: الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا (الحلقة الثانية)

اثنين, 12/15/2014 - 14:31

   خواطر حول معوقات قيام الدولة الموريتانية

                            (الحلقة الثانية) وقفة مع الذات
                   بقلم: الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا
                     رئيس حزب " التجمع من أجل موريتانيا ـ تمام"
نعود إلى الموضوع الرئيسي: لماذا لا تقوم دولة في موريتانيا؟
على مدى ألف عام على الأقل عجز "الموريتانيون" عن إقامة دولة مركزية في هذه الربوع.. وتفضي قراءة متأنية للتاريخ الموريتاني إلى أن "المجتمع العميق" بذل كل جهده في سبيل أن لا تقوم تلك الدولة المنشودة.. كانت كل اللبنات السابقة، إن وجدت، لبنات من الملح تذوب تحت كل وابل و طل.. اليوم على الموريتانيين التفكير العميق في وضع اللبنة الأولى من الجسر الذي يجب أن يوصلنا إلى "الدولة".. الغاية والوسيلة..

في الحلقات التالية من هذه المعالجة المتواضعة سوف نذهب عميقا في أرض ما تحت الجسر المنتظر.. وسنكون صريحين كعادتنا في طرح تصورنا ورؤيتنا لهاذ الموضوع.. وقبل كل شيء نقرّ أننا أمام تحد كبير، إذ تراكم الخلل قرونا من الزمن، والوضع أصبح يتطلب معالجة سريعة، آنية، واعية، حكيمة..
من دون شك  فقد سيطر العنصر العربي (البيظان) منذ أكثر من ألف عام على هذا المجال الترابي من "واد نون" إلى "انجاغو"، بل إلى "اللوكة"، ، كان فيها صاحب الكلمة واليد العليا علما  و حضارة وسلاحا. ولست مع الذين يرون أن الأحكام المركزية من حول هذا الحيز لم تجد فيه ما يغريها على الاستيلاء عليه وضمه. بل من المعطيات التاريخية أنه منذ دولة "لمتونه" وإلى مجيء الاستعمار، كانت الأحكام المجاورة شمالا تتخوف في كل وقت من تشكيل دولة ترحل شمالا أو جنوبا، و  ترقب بدقة أحوال سكان جزيرة "تيدره" من حيث انطلقت حركة المرابطين التي غزت الأندلس وخاضت  معركة الزلاقة وانتصرت فيها، ما مدد الحكم العربي بالأندلس أربعة قرون.
إن الاستكشاف الأوروبي (الهولندي، البرتغالي، الانجليزي، الاسباني، الفرنسي) للشواطئ الموريتانية جاء مبكرا قياسا لمستعمرات أخرى، ومع ذلك كان الفضاء الموريتاني آخر منطقة يتم استعمارها في الساحل. يُرجع بعض المحللين و المؤرخين ذلك إلى  غياب الثروات وقتها عن هذا المجال الترابي. هذا المبرر ليس دقيقا و لا مقنعا لأن كثيرا من المؤشرات المنجمية الحالية  كانت قائمة وقتها في كناش المنقبين. الحقيقة أن وعورة تضاريس هذه البيداء المترامية و قساوة ظروفها المناخية  و جفوة ساكنتها القليلة المتناثرة عبر أطرافها لم تشجع المستعمر على احتلال البلد في الوهلة الأولى لأنه لم يدرك الأهمية الإستراتيجية لهذا الفضاء إلا متأخرا، فكان لقرار الاحتلال المتأخر مبرران أساسيان هما قطع المد الإسلامي و العربي الواصل للمستعمرات الفرنسية بغرب إفريقيا عبر موريتانيا،  ثم ربط مستعمرات الجنوب بالشمال.
بعد مائة عام على الاستعمار الأوروبي للمنطقة وزعت السلطة الاستعمارية "البيظان" على تسع بلدان (المغرب، الجزائر، السنغال، مالي، اتشاد، ليبيا، النيجر، بوركينافاسو).. وكان من الطبيعي أن تُعتمد موريتانيا (الحالية) النواة المنتقاة لـ"دولة البيظان" نتيجة معطى ديمغرافي لا غير، رغم محاولات عدة لقطع البلد من عمقه المغاربي من خلال دمجه و ذوبانه في كيان  إفريقي زنجي بغية طمس هويته العربية و استلابه الحضاري. و  تعمد المِشرط – كما فعل في كل الدول الأخرى – الإلحاق والاقتطاع. ولأن الاستقلال الاسمي كان محل خلاف، ورأى فيه البعض "بترا تاريخيا" لزيادة "المجزأ" العربي، فقد كان الغلط الأكبر الذي تم ارتكابه هو العمل، دون وعي، على بناء جدار القطيعة مع الشمال (جدار الحرب والعداوة) وفتح بوابة الجنوب أمام  التجنس الرخيص "جنسية الخمس أواق" (كان مواطنو دول الجوار الجنوبي إلى وقت غير بعيد يعبرون النهر في و يتجنسون بتكلفة خمس أواقي، هي ثمن شكلية بطاقة التجنيس.. هذا معروف ) . وتكفل الجفاف وحرب الصحراء بواحدة من أكبر الهجرات في تاريخ المنتبذ.. كما نجح وكلاء الاستعمار في تحقيق ما عجز عنه أسيادهم بتحقيق الاستلاب الحضاري الناجز. وفي مرحلة لاحقة نجح الوكلاء في رفع جدار القطيعة مع الجنوب (أزمة 89) في تجاهل تام لأبسط أبجديات التاريخ والجغرافيا، لتعيش البلاد كحيز معزول تحت وباء "الحجر الصحي" الجغرافي وهو ما تزال حتى اليوم تعاني من تبعاته.. إذ لا تثق أي من دول الجوار لا في تصرفاتنا ولا في نوايانا و لا تقبل منا حتى الحياد، وتشترط كل منها علينا طلاقا باتا مع الأخرى من أجل السماح بعبور أفراد أو مواشي..
إن كل ما سبق ليس سوى رواسب تخفي تحتها المشكل الجذري، الذي يرفض الجميع الاقتراب منه، باعتباره خطا أحمر للذين يتأملون فعلا، أما الذين استولوا بغبائهم على أجوبة ذاتية، فهم لا يشعرون أنهم ابتعدوا أكثر من أسباب التأمل في فشل تحقيق "الدولة" بدل بقائها مفهوما افتراضيا يمكن لأي مدون، أحرى سياسي انتهازي، التشدق به، والعمل وفق جاذبيته الموهومة.
الحق أن ما يهب علينا ليس من مروحة عطرية. وأننا في وضع لا نحسد عليه قليلا أو كثيرا. والمشكل يتعقد يوما بعد آخر. الرتق يتسع من دون راتق أصلا.. وما يبعث على الفزع أن كثيرين لا يعبئون بهذا الواقع، وأن النخبة السياسية    ـ و ما أبرء نفسي ـ تفاقمه أكثر إذ لا تتحرك نحو بديل غير شعاراتي.
قبل عقود كتب  "بشير بن يحمد" و هو أحد الصحفيين الدوليين البارزين، قائلا إن موريتانيا دولة قامت من توازن الفوضى. هذه العبارة لم تجد من ينتبه لدقتها ولا لأهم من ذلك وهو أن توازن الفوضى لا يستمر طويلا، لأن ذلك ينافي طبيعة الفوضى ذاتها، فهي كائن مرتبك يفتقد كل صفات التوازن و الثبات.
ولعل "العم سام" نجح في تصنيع كل شيء إلا "ضبط الفوضى". إن "الفوضى الخلاقة" التي أنتجها  الميثاق "الصهيو ـ أمريكي" لا يمكن إلا أن تحمل الرائحة  المزعجة للرحم التي أنجبتها من أجل أمن الكيان الصهيوني، خوفا من استعادة المارد العربي لوعيه. لكن "ضابط" تلك الفوضى، ذلك العفريت المشوه،  خرج عن السيطرة و لا يمكن الوصول إليه. و لأن الجزاء من جنس العمل، فلا يمكن لأمريكا الآن هي نفسها تجنب الإعصار المدمر. إن تنظيما ك "داعش" و غيره من التنظيمات الجهادية و آلات القتل و الإبادة المنتشرة، العابرة للقارات ليست سوى التأثيرات الجانبية و النتاج الطبيعي لهذا المشروع العدواني. فما من روح تُزهق و لا دم يُهرق و لا مصحف يُمْزَقُ و يُحرق و لا شعب يُباد و يُسحق إلا و بذمة هذا الثنائي منوط و في سجله موثق مضبوط. فالدماء لا تضيع و الحقوق لا تسقط و الدَّيان لا ينسى... كما تدين تدان... "فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا و كنا نحن الوارثين".
بالنسبة لموريتانيا فقد عُمرت طويلا في الفوضى، ليس الآن فحسب، بل منذ عقود، عندما لم تصنع القوةُ الدولةَ، وتنقلت تلك القوة بين التلال والمجابات كسائحة.
قد يقول قائل إن هذا الشعب المعروف بذكائه وعلمه نجح في كل شيء إلا "الدولة"، وأقول إن "الدولة" هي التي إذا فشلت فيها فشلت في كل شيء. واليوم لا يمكن أن تجد من مقومات الدولة غير الشكليات الرسمية و الرموز التي لا تعبر إلا بشهادة ابتعادنا عن "الدولة".
إن طرح قضايا كالوحدة الوطنية، والتعايش السلمي، والهوية، وغير ذلك، أمر عبثي في هذه الظرفية.. إذ أن المفاهيم السابقة تُطرح في ظل دولة تقوم على الحد الأدنى من المركزية والخدمات، ونحن شعب ما يزال بكل شرائحه وفئاته متفق على الهروب من "الدولة" بكل ما أوتي من دهاء و وسيلة.. و ساعدته في ذلك عقليات مستعدة لجرف كل الرمال فوقها من أجل تحصين نفسها داخل القوقعة هناك في الأعماق،  في ظل ظاهرة "الرؤساء البوابين و الوﯖافين"، الذين يستفيدون كثيرا من استمرار هذا الواقع  ليعمروا طويلا في السلطة من أجل الثراء الفاحش بالمال الحرام.
إلى وقت قريب كان التصور الذي لا يقبل الجدل أن الجيش هو الضامن الوحيد لوحدة البلاد واستقرارها الاجتماعي.. ويغيب الآن عن أصحاب هذا التصور أن الجيوش الحديثة لم تعد قادرة على الوقوف في وجه التحلل الاجتماعي والعقائدي والفكري الفوار، الذي تتلاقي فيه إرادة الأنا الداخلية الضيقة مع آلة التفكيك الخارجية.. هذا واقع الجيش في اليمن، السودان، العراق، سوريا، ليبيا. وفي  عشرات الدول الإفريقية. وتكاد عدوى هذه الظاهرة تصل الدول الكبرى المتقدمة بعد أن تجاوزت دولا من وزن أوكرانيا. ولن يعدم المتأمل في خلفيات الحراك الاجتماعي تحت السطح أدلة دامغة على أن الدول العظمى ستلجئ في وقت قريب إلى إنزال جنودها للشوارع للحفاظ على السلم الأهلي. لكن الجنود لا يزرعون السلام في الشوارع، بل على الحدود.. و لعل من بوادر و تجليات هذا التحول، ظاهرة اعتناق شباب الغرب المسيحي الناعم، الإسلام شرعة و منهاجا و تهافته على طوابير الانخراط في صفوف التنظيمات الجهادية أفواجا. هناك "ربيع غربي" أكثر إيلاما ينضج تحت مظالم الليبرالية الثقافية والمالية المترفة.
كيف حالنا إذا، ونحن هنا في هذا المنتبذ، ومن دون "مؤسسات" أحرى "دولة"؟
أخطر من ذلك كله أن البلاد لم تشهد "حالة وعي جمعوي" نحو هدف واحد منذ الاستقلال الاسمي.. وأن كل الأحزاب والحركات السياسية و الأيدلوجية والنقابية والمدنية كانت جمعا لسلبيات شتات المتناقضات الاجتماعية والفردية، وقد وجدت فيها مظلتُها الشرعية ملاذَها الآمن. وهكذا فإن لقاء هذا الشتات المتشظي كان لا بد أن ينتج المزيد من الأصوات المزعجة.. وأن يبتعد أكثر ب"الوسط العامي" عن الإيمان بالقيم العليا لمفهوم الدولة، ناهيك عن مفهوم السياسة والتعايش السياسي. ما جعل الانتهازية السلبية هي مربط أحصنة الكل، وعلى رأسهم الأغلبية الساحقة من المثقفين الذين تحولوا إلى سدنة للقبلية و الجهوية، والذين نحتوا نصب التزلف لأصحاب الكراسي المادية والوظيفية، مؤطرين لثقافة "اتشعشيع"، والولاء للنفع السريع الحرام.
إنه ميراث عقود من التناقض الاجتماعي و الفكري، والذي كان من تجلياته أننا نحن من أدخل المستعمر ذات يوم، لأننا عجزنا عن بناء دولة.
هذه ليست نظرة سوداوية إلى الواقع الحنظلي. هذه وقفة مع الذات، ودعوة للتفكير العميق في وضع اللبنة الأولى من الجسر الذي يجب أن يوصلنا إلى "الدولة".. الغاية والوسيلة.
لا يجب التفكير مطلقا في التهور.. إن الحلول المؤلمة لم تعد كافية لوقف النزيف في "بلديات" العالم الثالث.. فلم يؤد تقسيم السودان إلى إنهاء معاناة الشعب الواحد.. ها هي الموجة الثالثة الأشد فتكا من الحروب تطحن شعب"البلدين الجديدين".. كما لم يُشف العراق ولا أي بلد في العالم من حرائق الطائفية والمحاصصات إذا انزلق إليها.. العراق تحتضر...الشام تحترق...اليمن يتمزق...ليبيا تنزف... مصر "على  شفا جرف هار"... فالحلول المؤلمة تقتل الأمم وتدفعها إلى التلاشي لأن تلك الحلول تناقض وجود الدولة ذاتها. إذ في "الدولة" يمكن التغلب على كل سلبية، بل وتحويلها إلى مصدر إثراء وتنوع وقوة.
ومهما قست الظروف فيجب أن نتذكر أن الشوك مهما كانت حدته  و الظلام مهما كانت شدته و الطريق مهما بلغت وعورته و طالت مسافته لن يمنعوا يوما الوطنيين الكبار و الرجال الأفذاذ الصادقين الصديقين من  السير في الدروب و نيل المطلوب. فمن جد وجد. و الحق سبحانه و تعالى "لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
أعرف أن الأوطان، كل الأوطان، قد تمر بلحظات عصيبة، لكن الأوطان التي تعيش في قلوب الرجال والنساء لا خوف عليها وعليهم ولا هم يحزنون.
يتابع...