بينت الحلقة الأولى من معالجة (سوق الكتاب الموريتاني كساد في القاعدة ورواج في غوانتانامو) أهمية الكتاب عند الموريتاني التقليدي وما يحظى به الحرف اليوم من قيمة في البلاد القارئة وبرهنت الحلقة الثانية على هبوط مؤشرات الكراس في موريتانيا من خلال سرد رحلة واقعية لكتاب كاسد وتخلص هذه الحلقة (الثالثة والأخيرة) إلى باعث المعالجة وهو ما لقيه كتاب موريتاني، صدر مؤخرا، من رواج ولذلك فلا غـرو أن يكون المؤلف ولد صلاحي في دائرة الإهتمام باعتباره بطل قصة عنوانها: فتح موريتاني في غوانتانامو.. ونزولا عند رغبة غالبية القراء المنحازة للقراءة السريعة speed reading سأجتهد لكبح جماح الحروف.
من الوارد أن ينصرف ذهـن البعض خاصة من غير الموريتانيين إلى أن الفتح المقصود في العنوان هو السيطرة والتحكم إلحاقا بمفهوم الفتوحات: دخول المسلمين إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بقوة السلاح.. وتجنبا لأن يثير الموضوع اللبس لدى الدولة الأقوى يهمني أن أبين أن الفتح في مفهوم هذا المقال هو المتداول في منكبنا البرزخي، فتح "الطلبة" وهي شريحة من المجتمع يتعين أن يسجل المترجمون أنها مختلفة عن طالبان باكستان وأفغانستان لأن طلبة موريتانيا مسالمون وغير مسلحين وغالبا ما يتجنبون سوح الوغى.. فبينما كانت بلاد السيبة ساحة نهب وفوضى كان الطلبة أو الزوايا عزلا من السلاح يمتشقون الكتب والألواح ولذلك كثيرا ما تجنب المحاربون حرمهم وتركوا لهم أرواحهم وممتلكاتهم اتقاء لقذائف دعاء خفية يجمع الناس على بأسها.. وعندما حملوا السلاح تبين أنهم أولو بأس شديد.. أما اليوم فقد انتشرت العافية وانصهرت الفوارق واختلط حابل الشرائح بنابلها فأصبح بعض أبناء الزوايا محاربين وقوادا لأبناء حملة السلاح بينما نبغ بعض أبناء المحاربين في تدريس شتى العلوم وتسلل بعض أبناء الشرائح المهمشة إلى مراكز الريادة هنا وهناك.. تحقق ذلك كله لعدل قسمة الفتح بين الخلائق.
الفتح المقصود إذن حالة تقبل ذهني تخول الطالب أن يحفظ ويفهم وأن يصدر فهمه للآخرين ممتحنين أو غيرهم.. ولهذا دأبت الأمهات الموريتانيات، عند تشييع الأبناء أيام الإمتحان، على قراءة آيات من كتاب الله على سبيل الدعاء.. ولا بد أن مريم بنت الوديعة، رحمها الله (والدة ولد صلاحي)، كانت تخرج خلف محمدو مكررة الآية "نصر من الله وفتح قريب"، ولكأني بها تنفثها خلف ابنها قبل أن ينعرج به الطريق ويتوارى عن ناظرها.. وربما رددت آية أخرى، عند إقلاع طائرة محمدو الأولى من مطار انواكشوط شمالا باتجاه "الغرب": "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله".. أما الطائرة المشرقة نحو الأرن فقد أقلعت على حين غفلة ولذلك ربما أخطأها الدعاء.
سمحا فقد شغلني تمثل هموم الوالدة الراحلة عن تعريفكم بابنها المسافر والمؤلف ولد صلاحي، فبحسب المعلومات التي حصلت عليها ولد محمدو في مكان ما من ولاية اترارزة (موريتانيا) عام وفاة جمال عبد الناصر (سنة 1970) وصادف مولده سنوات جفاف قاسية في موريتانيا أرغمت الكثير من المواطنين، المنمين غالبا، إلى النزوح من الأرياف إلى المدن بعد أن نفقت حيواناتهم وخاف الناس على أنفسهم الهلاك جوعا وعطشا.. لم تكن أسرة أهل صلاحي بدعا من محيطها فقد نزح أغلب الموريتانيين من البدو تباعا وتحلقوا حول العاصمتين.. كان والد محمدو فيما طالعت تاجرا "تيفايا" يبيع الإبل جمالا ونوقا ليعيل أسرته قبل أن يتوفاه الله بينما كان محمدو في المرحلة المتوسطة من دراسته.
تنتمي عائلة صلاحي لعشيرة معروفة بترويض الكلمة العربية عامية وفصحى وقد ورد في الحلقة الأولى من هذه المعالجة إن القوم ".. بعد أن نبغوا في تدجين شوارد لسان العرب الفصيح واللهجي (كلام البيظان) بدأوا يجربون فراستهم في لغة شكسبير".. دخل محمدو المدرسة وتدرج حتى تمكن من النجاح متفوقا في الثانوية العامة (الباكالوريا) سنة 1988 - وكان عمره ثمان عشرة سنة - مما أهله للحصول على منحة لمتابعة دراسته في الخارج وعندما اقترب إقلاع الطائرة كاد الفتى يعدل ويلغي بعثته بسبب تعلقه بأمه الفزعة لفراقه.. إلا أنه غض طرفه المبلل بالدموع وسافر في النهاية لمتابعة دراسته الفنية في ألمانيا وكانت أول مرة يركب فيها الطائرة.. كان مناخ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي مخيما على العالم إلا أنه وبفعل الإحتكاك استعرت الحرب فعلا في أفغانستان ولذلك دعم الغرب، بقيادة الولايات المتحدة الآمريكية وحلفائها، المقاومة الإسلامية في بلاد الطالقان لا لعدالة القضية وإنما لكون المسلمين كانوا يقاتلون أعداء آمريكا.. تطوع بعض فتية العرب المسلمين للقتال وهبوا لنصرة الأفغان في مواجهة المد "الشيوعي السوفيتي الملحد".. ربما أراد الكثيرون بالمواجهة وجه الله فصادفت هوى في نفوس قادة الغرب الذين لم يبخلوا بالمال والعتاد.. انضم صاحبنا لسرايا المجاهدين الذين كبدوا الإتحاد السوفياتي خسائر فادحة أرغمته على الإنسحاب من أفغانستان في فبراير 1989 واستمرت الحرب ضد الحكومة التابعة له.. وعندما تم النصر انقضت فترة التجنيد القصيرة وعاد محمدو لمتابعة دراسته التي توجت بشهادة مهندس في الكهرباء من جامعة دويزبيرغ فعمل في ألمانيا قبل أن يسافر إلى كندا ويعود إلى موريتانيا حيث كان أحد الفنيين القلائل المتأقلمين آنذاك مع تقنيات الإنترنت الوافدة مما مكنه من الجلوس أمام الحاسوب في تجكجة بينما كان الرئيس معاوية ولد الطائع وحاشيته وقوفا مشدوهين لمتابعة شاشة تمور بالأحداث والمعلومات.. ومع مستهل الألفية، بدأت أجهزة الأمن الغربية ترتاب في ولد صلاحي وتتابعه بعد أن تغير موقفها من الأفغان العرب.. وسرعان ما اشتعل فتيل الحرب بين الولايات المتحدة الآمريكية والقاعدة إثر الهجوم على برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11 شتنبر 2001 الذي فقدت آمريكا بسببه توازنها وأعلنت الحرب على كل من ليس في صفها (من ليس معنا فهو ضدنا) وجعلها تصرف النظر عن قواعد حقوق الإنسان.
كانت لمحمدو قصة في المعتقلات وجلسات التحقيق حيث أوقف في دكار وانواكشوط وحقق معه آمريكيون اختلوا به في عاصمة بلده بعد أن أمروا المحققين الوطنيين بالإنصراف من مكاتبهم وبدا للإف بي آي أن تنقله في طائرة خاصة إلى عمان ومن ثم إلى باغرام قبل أن يلقوه في غيابات سجن غوانتانامو، بقعة قدروا أن تأخذ مسافة من قوانينهم لوجودها خارج دائرة سلطان القضاة الآمريكان المشهود لهم بالقوة في مواجهة التعسف مما برهن عليه القرار الصادر في دعوى محمدو ولد صلاحي ضد باراك حسين أوباما (القضية رقم: O5-CV-0569 من DISTRICT COURT OF COLUMBIA) التي أصدر فيها القاضي الإتحادي جيمس روبرتسون قرارا من 32 صفحة، بتاريخ 9 ابريل 2010، خلاصته أنه لم يثبت لدى القاضي أن ولد صلاحي ظل في صفوف القاعدة إلى أن اعتقل وأن الولايات المتحدة الآمريكية لم تقدم ما يثبت إدانته وأن خوفها من عودة ولد صلاحي لصفوف القاعدة لا يشكل، في قناعة القاضي، مبررا للإحتفاظ به في سجن مؤبد.. كاد يقول أن ما تعرض له الشك سقط به الإستدلال.. ولذلك أمر بإخلاء سبيل محمدو ولد صلاحي.
وفي المعتقل الكوبي تقيد حرية ولد صلاحي منذ ما يربو على ثلاثة عشر عاما، عدا من أغشت 2002 إلى حين كتابة هذا المقال (في أكتوبر 2015) وفي المحبس تمكن الفتى من تحسين مستواه في اللغة الإنجليزية (الرابعة في ترتيب لغاته بعد العربية والألمانية والفرنسية)، وحرر الكتاب الذي منحه مكانة عالمية وبلغ تداوله آفاق لم يبلغها مؤلف موريتاني.
في المحبس وبينما كانت الأبواب موصدة، تسرب الفتح إلى غرفة محمدو: وتمكن ولد صلاحي من كتابة رواية كفلت لها الإنجليزية "لغة القراء" الرواج الفوري في العالم بأسره (1) أماطت القصة اللثام عن ظروف استجواب الأجانب لولد صلاحي في انواكشوط، فذكرتني ملابساتها بسابقة قضائية وطنية وجدت من الوارد ذكرها لأهمية تراكم السوابق في خلق الوعي المدني (2) ولعل من أهم ما يستخلص من قصة ولد صلاحي أن السجون تستحق الإهتمام (3) وكدأب المحامين في خلاصة مذكراتهم أختم بالطلبات (4).
1. رحلة كتاب رائج:
صدر كتاب ولد صلاحي "يوميات غوانتانامو" Guantanamo Diary - الذي نشره وقدم له الكاتب الآمريكي لاري سييمس - في نشرة متزامنة في عشرين دولة، يوم 20 يناير 2015، وبعيد صدوره صنف ضمن قائمة المائة كتاب الأكثر رواجا في العالم وترجم إلى أكثر من ثلاث وعشرين لغة قبل أن يعربه عمر رسول وتنشره دار الساقي، لقراء العربية، في مايو 2015.
تصادف نشر المصنف مع وجود أحد المواطنين الموريتانيين في الولايات المتحدة الآمريكية (ع. شماد) فوقف في الطابور أمام مكتبة Barnes & Nobles في مدينة دنفر كولورادو للحصول على نسخ من الكتاب وعندما جاء دوره أخبرته عاملة المكتبة بأنه محظوظ لأن المعـروض من اليوميات لم يكن يتجاوز نسختين، حينها شعر صاحبنا بفخر الإنتماء لبلد الكاتب المتميز الذي يقبل القراء بشغف على شراء كتابه رغم أن الرقابة الآمريكية طمست أغلبه ولكن باقي جمله المبتورة وصفحاته الجرباء المطلية بالسواد كانت أحب إلى القراء من التعبير والصور المنمقة المطبوعة بإتقان على ورق ثمين.
وفي شهر يوليو (2015) طاف موريتاني آخر (أ. مصطفى) بمكتبات القاهرة (مدبولي، أقلام، الشبكة، دار المعارف والشروق) فلم يحصل على نسخة واحدة من الطبعة العربية التي نفدت قبل أن يفيء إلى مكان يفطر فيه بعد يوم صوم حار.
وبالنظر إلى رواج كتاب "يوميات غوانتانامو" وإلى أن سعر نسخة الكتاب في أكتوبر 2015 (تاريخ كتابة المقال) هو 16,47 دولار آمريكي بعد أن كان ثمنها 29 دولارا كما هو معلن على الصفحات الإلكترونية لمكتبة amazon وأن سعـر نسخته المعربة كما حددته دار الساقي هو 18 دولارا آمريكيا.. وأن الكتاب نشر في لغات أخرى وعلى وسائط متعددة بعضها مسموع.. فلا بد أن يكون لصاحبنا عائد يقدر بملايين الدولارات من بنات فكره مما يؤهله لأن يكون ضمن قائمة الميسورين في بلد لا يزال الثراء فيه نسبيا.. قد لا يصبح ولد صلاحي ثريا باعتبار المعايير الآمريكية كما صرح لاري سييمس لكنه غدا غنيا بمقاييسنا وهو ما ينبغي أن ينتبه له محمدو وعائلته ومحاموه خاصة وأن عائد الكتاب مال نظيف ينفذ رقراقا من خلال غرابيل محاربة التبييض والإرهاب.
2. عندما يحقق الأجانب في موريتانيا:
ذكر القاضي يعقوب ولد آلويمين في مقال نشر في أغشت 2015، تحت عنوان: قراءة في الإنتهاكات القانونية في حق محمدو ولد صلاحي، ملاحظات هامة أقتبس منها:
" .. وفي قضية محمدو ولد صلاحي تم انتهاك تلك المبادئ التي تصل إلى درجة الدستورية. فالتحقيق معه طوال 66 يوما لم يتم بإدارة أو إشراف القضاء ولا حتى بعلمه، وبطبيعة الحال دون حضور دفاعه. وقد تولى التحقيق معه محققون أجانب، يذكر هو في مذكراته أنهم آمريكيون، في غياب المحققين الموريتانيين، بل إن هؤلاء يتم طردهم من مكتبهم في الأوقات المخصصة للاستجواب !! ولئن كانت مشاركة محققين أجانب في الاستجواب ممكنة في حالات معينة ووفقا لشروط وضوابط محددة، منها أن يكون في إطار تعاون قضائي مبني على اتفاقية دولية وأن يكون القضاء الوطني قد أذن به وأن يكون المحقق الوطني حاضرا للاستجواب وأن يقتصر دور المحقق الأجنبي على طرح أسئلة محددة بعد موافقة المحقق الوطني، فقد ذكر محمدو ولد صلاحي أن المحقق الأمريكي طرد نظيره الموريتاني من مكتب هذا الأخير عندما هم ذات مرة بالدخول أثناء جلسة استجواب. هذا مع العلم أن موريتانيا والولايات المتحدة الأمريكية لا تربطهما أي اتفاقية تعاون قضائي تتيح للأمريكيين القيام بأي نوع من أنواع الأعمال القضائية في موريتانيا." انتهى الإستشهاد.
وبعد أن نقلت ملاحظات القاضي و"قوله الماضي" يهمني أن أضع الإصبع على مكمن الداء وهو من جهة تهميش السلطة القضائية في الدولة وتلك مسألة دستورية ينبغي أن تكون في أجندة السياسيين وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية الذي يتعين أن يدرك أن حصيلة عمله في القضاء سلبية ومن جهة أخرى تقاعس القضاة الموريتانيين المختصين عن واجب حماية الحريات ورقابة أعمال الضبطية القضائية المخالفة ودأبهم على انتهاك حقوق الدفاع وتلك ممارسات قضائية ينبغي أن يعالجها العاملون في القضاء.. فلو أن أسرة محمدو لجأت إلى قضائها الطبيعي وشكت اختطاف ابنها لوكيل نيابة مؤمن بواجبه في حماية الحريات ومقتنع بتبعية القوة العمومية له، لا العكس، لكان بمتناوله إنصاف ولد صلاحي بمجرد التلويح بتطبيق المادة 319 من قانون العقوبات الموريتاني النافذة:
(يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة كل من أو قفوا أو اعتقلوا أو حجزوا أي شخص بدون أمر السلطات المختصة وخارج الحالات التي يأمر فيها القانون بالقبض على المتهمين.
وتطبق ذات العقوبة على من أعار منزلا لهذا الاعتقال أو الحجز ويعاقب بنفس العقوبة كذلك من يبرمون اتفاقية بهدف التصرف سواء بصفة مجانية أو بعوض في حرية الغير. ويحكم دائما بمصادرة الأموال والأشياء أو القيم المسلمة تنفيذا لهذه الاتفاقية. ويطبق دائما الحد الأقصى للعقوبة إذا كان الشخص موضوع الاتفاقية يقل عمره عن خمس عشر سنة. ويمكن علاوة على ذلك في كل الحالات أن يحرم الجاني من الحقوق المنصوص عليها بالمادة 36 لمدة خمس سنوات على الأقل وعشر سنوات على الأكثر).
كيف تتصورون رد وكلاء مكتب التحقيقات الآمريكيين على وكيل الجمهورية في انواكشوط عند إكمال قراءة المادة 319 عقوبات، خاصة عندما يؤكد لهم أنه مكلف، طبقا للقانون الموريتاني، بمتابعة تطبيق النصوص الجنائية وأن يكون مكتبه محاطا بأفراد من القوة العمومية المنضبطة والجاهزة لتنفيذ أوامره طبقا للمساطر.. أخمن أنهم سيعتذرون و"يسعون" أنفسهم وربما جربوا وسائل مدنية.
ماذا يضير الحاكم الموريتاني آنذاك لو ذكر دولة الولايات المتحدة الآمريكية كتابة بأن المادة 91 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية صريحة في أنه: "لا يعتقل أحد ظلما فالسلطة القضائية الحامية حمى الحرية الفردية تضمن احترام هذا المبدأ في نطاق الشروط التي ينص عليها القانون"، وأنه يتوجب احترام المساطر لأننا في دولة؟
ماذا لو أصر ضباط الشرطة على إشعار رؤسائهم في النيابة العامة قبل التصرف بما يمس من الحريات وقرر القاضي وجوب حضور دفاع لمؤازرة المتهم وحضر محام مستقل ليصدع أمام الجميع بأنه في غياب اتفاقية قضائية بين موريتانيا والولايات المتحدة لا حجة بيننا وبينكم.. يتوجب على المحققين الآمريكيين أن يسلكوا السبل الإجرائية المقررة باللجوء للجهة المختصة في التحقيق والضبط في هذا الإقليم لا أن يحتقرونا في عقر دارنا. وأن تكون الصحافة تترقب لتفشي الخبر وتحلله.
صدقوني لو تم ذلك لما وصف بلدنا بأنه ساقط.. فقد تعاملت السلطات الموريتانية مع المحققين الآمريكيين آنذاك بتساهل ما كانوا ليجدوه في (سييرا نيفادا) فشعـروا بأنهم يتعاملون مع قطيع داجن لا يهمه غير العلف.
سؤال: لماذا انتبذ الآمريكيون مكانا قصيا لسجن خصومهم بحجزهم في غوانتانامو بكوبا بدل حبسهم على تراب الولايات المتحدة الآمريكية؟
جواب: حرمة القضاة الآمريكان وتعصبهم للقانون والعدل يجعل تقييد الحريات على تراب الولايات المتحدة، دون أسس مقنعة، أمرا بالغ الصعوبة ومؤقتا في كل الأحوال.
وقد ذكرتني حكاية التحقيق مع محمدو في انواكشوط بواقعة قضائية تعود لأكثر من عقد من الزمن أجد من الوارد ذكرها للقراء لأنها تخدم الموضوع ويمكن أن تسهم في ترسيخ الوعي الحقوقي الآخذ في الإتساع، فمن مصلحتنا أن نجعل من السوابق لقاحا يحصن من تكرار التجاوزات.
في يوم 5 ابريل 2004، اتصل بي وكيل الجمهورية لدى محكمة ولاية داخلت انواذيبو، بصفتي متعهدا في قضية شابين موريتانيين متهمين بقتل مواطنة فرنسية.. حضرت مع زميلين معنيين بالقضية فوجدنا أن قاضية من محكمة روان الفرنسية وضابط شرطة فرنسي انتدب لمهمة كتابة ضبطها قد حضرا لتنفيذ إنابة قضائية تقتضي استجواب موكلينا.. كانت الإنابة مكتملة الإجراءات ظاهريا ومستندة على اتفاقية قضائية بين موريتانيا وفرنسا مؤرخة 19 يونيو 1961.. مر الملف فيما يبدو، بالطريق الدبلوماسي: من وزارة العدل الفرنسية إلى خارجيتها إلى سفارتها في انواكشوط التي أحالته لوزارة الخارجية الموريتانية فوزارة العدل التي بعثت مع المحققين قاض موريتاني لتسهيل المهمة.
كنا عشرة أشخاص في مكتب قاضي التحقيق الضيق آنذاك، ثمانية موريتانيين: أربعة محامين وثلاثة قضاة وكاتبة ضبط وفرنسيان: قاضية وضابط شرطة.
بدأنا النقاش مع القاضية الفرنسية من منطلق أن المتهمين متابعون في موريتانيا ولا يجوز متابعتهما بسبب ذات الوقائع ثانيا (double poursuite) من طرف هيئة قضائية أخرى وأن الإستجواب يصنف بأنه من إجراءات المتابعة فاحتدم النقاش الفني.. أثرنا تنازع الإختصاص الذي يوجب تخلي أحد القاضيين المتعهدين في نفس الوقائع وذكرنا المواد من 568 إلى 577 من قانون المرافعات الجنائية المطبق آنذاك.. ولما طال الأخذ والرد ضاق القاضي الموريتاني المرافق ذرعا والتفت إلى القاضية الفرنسية طالبا منها أن تترك الخوض معنا، في نبرة لا تخلو من استخفاف بنا انحيازا لها .. أجابته القاضية بأنها لا بد أن تجادل احتراما لحقوق الدفاع وتوخيا للجدوائية فمن اليسير علينا أن نطلب من موكلينا مباشرة حقهم في التزام الصمت فتفشل مهمتها، هكذا قالت.. حينها خاطبت القاضي الموريتاني المرافق قائلا: تأبون إلا أن تشهدوا الأجانب على دأبكم في انتهاك حقوق الدفاع.. ووصل الإنفعال إلى درجة أني طلبت من قاضي التحقيق طرد القاضي المرافق لأنه لا صفة له في حضور الجلسة فطلب حاكم التحقيق منه التزام الصمت.. وفي النهاية أثرنا لقاضي التحقيق وجوب الإستدعاء وأجله وتم الإتفاق على تأجيل الإجراء لليوم الموالي وأن يذيل محضر الإستجواب الذي سيعد بالمناسبة بملاحظاتنا.. وبعد مضي أكثر من عقد لا بد أن القاضية Sylvie GOSSENT لا تزال تذكر أنها وجدت مقاومة قانونية في موريتانيا بعكس شعور المحققين الآمريكان الذين اختطفوا ولد صلاحي وأعانهم عليه قوم لا قناعة لهم بأهمية الدفاع القانوني في مناعة الدول.
3. مزايا السجن:
لو سارت الأمور بطريقتها المعتادة، كما تمنتها والدة محمدو رحمها الله، لكان ابنها مهندسا مغمورا ومحصورا في دائرته العائلية والمهنية الضيقة ولبقي ذكره، في أحسن الأحوال، في حدود بلده.. وكما دفعت قلة ذات اليد الكاتبة الإنجليزية جوان رولينغ إلى الإبداع، كما بينت في الحلقة الأولى، أتاحت خلوة السجن ومعاناته لولد صلاحي أن ينتج كتابا رائجا ملأ ذكره الآفاق تمكن من خلاله من التحسيس بعدالة قضيته وتردد بفضله اسم بلده موريتانيا.. قطعا لن يستغرب أغلب المسلمين مفارقة بغض ولد صلاحي للسجن وما جلب له من منافع لأنهم يرتلون باستمرار الآية 216 من سورة البقرة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
ومع أني لم أدخل السجن إلا زائرا إلا أنه يخيل إلي أن "المعتكف اليوسفي" كما أسماه الخليل النحوي، ليس سلبيا بالمطلق كما يتصور الكثيرون بل إنه يؤلف وقد يوفر فرص إبداع لا تتيسر خارجه.. الكثير من المنطلقين في الشوارع والمكاتب والمدارس والأسواق مبدعون بالقوة إلا أن المطاردة تمنعهم من الإستقرار بما يكفي لتحصل الطمأنينة الكفيلة بتهيئة ظروف الإبداع الذي لا غنى له عن فترة حضانة ينصح فيها بالتركيز والإعتكاف..
وقد حدثني الأستاذ/ علي ولد سيدي محمد، أنه بينما كان مسيرا لسجن انواذيبو انتهت محكومية أحد السجناء وكان مدانا بخمس سنوات فلما أبلغ بأن إخلاء سبيله قد حان أجهش بالبكاء ورفض أن يبرح السجن بعد أن ألفه.. كان الحراس يغلقون الباب دونه ليلا فيبيت عند البوابة ليلج غداة اليوم الموالي قبل أن يجد سبيلا.
ومن الضروري أن تعمل السلطات الموريتانية العاكفة على إنشاء الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب على توخي الموضوعية والجدوائية والإبتعاد عن الأساليب التقليدية للرفع من مستوى السجون الموريتانية ونزلائها الذين يعانون فالتعسف لا يخدم أحدا.
4. الطلبات:
يشعـر الآمريكيون بالخجل كلما ذكر سجن غوانتانامو ولذلك تضمن برنامج المرشح الديمقراطي تعهدا بإغلاقه عند ترشحه سنة 2008 فانتخبوه وأعادوا انتخابه لفترة ثانية.. صرح الرئيس باراك أوباما بأن من غير الوارد "أن تصرف الولايات المتحدة الآمريكية معدل ثلاثة ملايين دولار عن كل نزيل لإبقاء سجن يدينه العالم"، ولذلك يلاحظ المراقب حراكا لإخلاء سجن غوانتانامو تمهيدا لإغلاقه ربما قبل أن يبرح أوباما البيت الأبيض بعد خمسة عشر شهرا فبعد أن كان عدد نزلاء المعتقل 780 تقلص العدد اليوم (29 أكتوبر 2015) إلى 113 معتقلا، رحل أغلب النزلاء لبلدانهم (وتوفي تسعة في الإعتقال).. وتسعى الولايات المتحدة جاهدة للتخلص من الباقين وفي هذا الإطار تم اليوم، بفضل الله، الإفراج عن مواطننا أحمد ولد عبد العزيز.. ومن أدلة جدية المسعى أن الولايات المتحدة رتبت لترحيل بعض نزلاء غوانتانامو إلى بلد ثالث.. لذلك تعتبر الفرصة مؤاتية لتبذل السلطات الرسمية الموريتانية جهدا إضافيا لتسلم محمدو ولد صلاحي الذي صدر قرار قضائي بإخلاء سبيله ويخيل إلي أن الولايات المتحدة جاهزة.. لقد عاد محفوظ ولد الوالد من طورا بورا بعد أن استقال من القاعدة وكان مفتيها وها هو اليوم يؤم المصلين ويباشر الدعوة إلى السلام من عرفات.. وقد صرح علنا أنه يوجه كل من يتصل به من الأجانب في أمر ذي طبيعة أمنية إلى المرور عبر السلطات.. وبالرجوع لقرار القاضي James ROBERTSON المتضمن ردود أوباما يتبين أن صلة ولد صلاحي بقيادي كأبي حفص تشكل هاجسا ومبررا رئيسيا لخوف الولايات المتحدة.. ومن الوارد، على ضوء ذلك، وغيره الإعتقاد بأن حياة محمدو في موريتانيا ستكون "ثلجا" على الولايات المتحدة الآمريكية وعلى خزينتها وسمعتها.
أطلب من السلطات الموريتانية أن توجه طلبا رسميا بأن يسلم لها مواطنها محمدو ولد صلاحي ومن السلطات الآمريكية إجابة الطلب المنسجم مع قرار القاضي الإتحادي المحترم جيمس روبرتسون.
المحامي/ محمد سيدي ابراهيم