رغم أن الحدث هو ذاته منذ أربعين سنة خلت، والاحتفالات ظل دورية بدون انقطاع منذ أربعة عقود، إلا أن الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، والتي حلت أمس الجمعة، لم تكن كسابقاتها، لا من حيث الزيارة الملكية للأقاليم الجنوبية بالتزامن مع الذكرى، ولا من حيث السياق الزمني الجديد الحافل بتعزيز الجهوية المتقدمة بعد انتخابات حرة ونزيهة كرست آخر مراحل التغييرات الدستورية التي شهدتها البلاد منذ العام 2011.
ولأن الحدث تاريخي بامتياز، فقد جاء الخطاب الملكي على مستوى الظرف الزماني والبعد المكاني والتطور السياسي، ليصبح خطابا تاريخيا بامتياز هو الآخر، تضمن رسائل غير مشفرة على الجميع أن يحفظها ويدركها حق الإدراك.
الرسالة الأولى؛ تمثلت في اعتبار الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء "مرحلة فاصلة في تاريخ استكمال الوحدة الترابية للمملكة"، تتطلب "قطيعة حقيقية مع الأساليب المعتمدة في التعامل مع شؤون الصحراء: قطيعة مع اقتصاد الريع والامتيازات، وضعف المبادرة الخاصة، وقطيعة مع عقلية التمركز الإداري"، والمبرر واضح، فقد بلغت القضية مرحلة النضج (سن الأربعين)، وعلى الجميع أن يكون على مستوى ما تم توفيره من شروط "لإطلاق مرحلة جديدة على درب توطيد الوحدة الوطنية، والاندماج الكامل لأقاليمنا الجنوبية في الوطن الأم"؛ كما ورد في الخطاب.
وبشكل أكثر وضوحا، فالملك محمد السادس يريد نمطا جديدا في التعامل مع الملف، يتماهى مع "تفعيل النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، وتطبيق الجهوية المتقدمة".
أما الرسالة الثانية؛ فهي موجهة لأبناء الأقاليم الجنوبية أنفسهم، فالعرش العلوي يحرص، كل الحرص على "تمكين أبناء أقاليمنا الجنوبية من الوسائل اللازمة لتدبير شؤونهم، وإبراز قدراتهم في النهوض بتنمية المنطقة"، ولم ذلك الحرص من فراغ، فالملك يدرك أن الصحراويين "معروفون، منذ القدم، بأنهم كانوا، دوما، رجال تجارة وعلم، يعيشون من جهدهم، بكرامة وعزة نفس. ولا ينتظرون المساعدة من أحد، رغم قساوة الظروف"، والكلام هنا موجه لأبناء الصحراء "الحقيقيين، الوطنيين الصادقين، الذين ظلوا أوفياء لروابط البيعة التي تجمعهم وأجدادهم، عبر التاريخ بملوك المغرب".
هذا التمكين لن يكون متاحا إلا لهؤلاء وهؤلاء فقط، "أما الذين ينساقون وراء أطروحات الأعداء ويروجون لها، رغم قلتهم، فليس لهم مكان بيننا. ومن تاب ورجع إلى الصواب، فإن الوطن غفور رحيم"؛ كما ورد في الخطاب.
الرسالة الثالثة؛ تؤكد أن تطبيق النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، لم يكن مناورة، ولم يتم استجابة لأية ضغوط داخلية كانت أم خارجية، وإنما تم بدافع تجسيد "وفائنا بالتزاماتنا تجاه المواطنين بأقاليمنا الجنوبية، بجعلها نموذجا للتنمية المندمجة"، وفضلا عن ذلك يريده الملك "دعامة لترسيخ إدماجها، بصفة نهائية في الوطن الموحد، وتعزيز إشعاع الصحراء كمركز اقتصادي، وصلة وصل بين المغرب وعمقه الإفريقي".
لذلك، لم يكن غريبا أن يقرر القصر الملكي "تعبئة كل الوسائل المتاحة لإنجاز عدد من الأوراش الكبرى، والمشاريع الاجتماعية والصحية والتعليمية بجهات العيون الساقية الحمراء، والداخلة وادي الذهب، وكلميم - واد نون".
وحتى لا يظل الأمر منحصرا في عناوينه الرئيسية، حدد الخطاب الأوراش التي سيبدأ العمل بها فورا، ودون تأخير، "ففي مجال البنيات التحتية، ستتم تقوية الشبكة الطرقية بالمنطقة بإنجاز طريق مزدوج، بالمواصفات الدولية، بين تيزنيت - العيون والداخلة"، حيث دعا الملك الحكومة إلى التفكير في "إقامة محور للنقل الجوي، بالأقاليم الجنوبية، نحو إفريقيا".
ومن ضمن الأوراش التي يجري العمل تنفيذها في المستقبل القريب، بناء خط للسكة الحديدية، من طنجة إلى لكويرة، لربط المغرب بإفريقيا، والذي يتطلب استكمال الخط بين مراكش ولكويرة.
ويتضمن برنامج إنجاز الأوراش بناء الميناء الأطلسي الكبير للداخلة، وإنجاز مشاريع كبرى للطاقة الشمسية والريحية بالجنوب، وربط مدينة الداخلة بالشبكة الكهربائية الوطنية، "وإننا نتطلع لربط هذه الشبكات، والبنيات التحتية، بالدول الافريقية، بما يساهم في النهوض بتنميتها".
وفضلا عن تعزيز البنيات التحتية القائمة، فإن العاهل المغربي يرى بضرورة تحسين ظروف عيش المواطنين، من خلال الحرص على "مواصلة النهوض بالمجال الاقتصادي، ودعمه بمشاريع التنمية البشرية"، وذلك من خلال "مواصلة استثمار عائدات الثروات الطبيعية، لفائدة سكان المنطقة، في إطار التشاور والتنسيق معهم".
وخلاصة هذه الرسالة أن المغرب لن يتخلى عن تحسين البنى التحتية في الأقاليم الجنوبية، وسيواصل العمل على تحسين ظروف عيش المواطنين في الجنوب.
الرسالة الرابعة؛ تشير إلى أن الملك يتابع شخصيا صيانة كرامة أبناء الصحراء، وخاصة الأجيال الصاعدة، وتعميق حبهم وارتباطهم بوطنهم، ولذلك وجه الحكومة ل"إعادة هيكلة منظومة الدعم الاجتماعي، لتكون أكثر شفافية وإنصافا، في التزام بمبادئ المساواة، والعدالة الاجتماعية، التي تطالب بها أغلبية الفئات المعنية".
وعلى المستوى الثقافي، قرر الملك، انسجاما مع تطلعاته وتطبيقا لمقتضيات الدستور، العمل على "تعزيز آليات الحفاظ على التراث الصحراوي، والتعريف به، ولاسيما من خلال بناء المسارح والمتاحف ودور الثقافة، بمناطق الجنوب".
وفي الجانب الحقوقي، أبرز الخطاب الملكي أن المغرب استطاع "التصدي لمناورات أعداء الوطن، بفضل التعبئة الجماعية، والحكامة الأمنية، والانفتاح على فعاليات المجتمع المدني"، مشيرا إلى أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ولجانه الجهوية، كمؤسسة دستورية، للدفاع عن الحقوق والحريات وحمايتها، "يقوم بكل استقلالية، بمعالجة أي تجاوز، في إطار الحوار والتعاون مع السلطات العمومية، والهيآت الجمعوية، والمواطنين".
أما الرسالة الخامسة؛ فهي موجهة إلى الصحراويين المغاربة المختطفين منذ أربعة عقود في مخيمات تيندوف بالجنوب الجزائري، المغلوبون على أمرهم، والذين تتاجر بهم حفنة من المرتزقة بدعم من الحكومة الجزائرية التي تستخدمهم كورقة ضغط على المملكة المغربية، حيث لا تزال ساكنة تيندوف؛ كما ورد في الخطاب الملكي، "تقاسي من الفقر واليأس والحرمان ، وتعاني من الخرق المنهجي لحقوقها الأساسية، وهو ما يجعل التساؤل مشروعا: أين ذهبت مئات الملايين من الأورو التي تقدم كمساعدات إنسانية والتي تتجاوز 60 مليون أورو سنويا، دون احتساب الملايير المخصصة للتسلح ولدعم الآلة الدعائية والقمعية للانفصاليين؟".
الرسالة تطالب الصحراويين المختطفين بوقفة تأمل وتساؤل: "كيف يمكن تفسير الغنى الفاحش لزعماء الانفصال الذين يملكون العقارات ويتوفرون على حسابات وأرصدة بنكية بأوروبا وأمريكا اللاتينية؟.ولماذا لم تقم الجزائر بأي شيء من أجل تحسين أوضاع سكان تندوف الذين لا يتجاوز عددهم 40 ألفا على أقصى تقدير، أي حي متوسط بالجزائر العاصمة ؟ وهو ما يعني أنها لم تستطع أو لا تريد أن توفر لهم طيلة أربعين سنة حوالي 6000 سكن ، يصون كرامتهم بمعدل 150 وحدة سكنية سنويا.
ولماذا تقبل الجزائر التي صرفت الملايير في حربها العسكرية والدبلوماسية ضد المغرب بترك ساكنة تندوف في هذه الوضعية المأساوية واللاإنسانية"؟
على الصحراويين المغلوبين على أمرهم، وحتى أؤلئك المغرر بهم، أن يعوا بأن التاريخ "سيحكم على الذين جعلوا من أبناء الصحراء الأحرار الكرام متسولين للمساعدات الانسانية، كما سيسجل عنهم أنهم استغلوا مأساة مجموعة من نساء وأطفال الصحراء وحولوهم إلى غنيمة حرب، ورصيد للاتجار اللامشروع ووسيلة للصراع الدبلوماسي".
وبشكل أكثر صراحة، وجه العاهل المغربي سؤالا لا لبس فيه، يخاطب ضمائر سكان مخيمات تيندوف: "هل أنتم راضون على الأوضاع المأساوية التي تعيشونها وهل تقبل الأمهات بمشاعر اليأس والإحباط لدى أبنائهن والأفق المسدود أمامهم؟".
ولم يستطع العاهل المغربي انتظار الجواب، للتعبير عن مشاعره تجاه مواطنيه المخطوفين، فقال: "أنا لا أرضى لكم هذا الوضع اللاإنساني. أما إذا رضيتم به، فلا تلوموا إلا أنفسكم ، وأنتم تشاهدون المغرب، يقوم بتنمية أقاليمه الجنوبية وتوفير الكرامة والعيش الحر لسكانها".
الرسالة الخامسة؛ موجهة للجزائر وللعالم، ومفادها أن قضية الصحراء ليست أول مشكل واجهه المغرب في تاريخه. فقد عرف أيام السيبة والفوضى، وعاش تحت الحماية والاحتلال. كما شهد صراعات وخلافات ما بعد الاستقلال، بخصوص بناء الدولة الحديثة"، وكان في كل مرة "يخرج موحدا قويا ومرفوع الرأس وذلك بفضل إيمان الشعب المغربي بوحدة مصيره، ودفاعه عن مقدساته ووحدة ترابه، وتلاحمه الوثيق مع عرشه".
خلاصة الرسالة، أن المغرب استجاب، سنة 2007، لنداء المجموعة الدولية، بتقديم مقترحات، للخروج من النفق المسدود، الذي وصلت إليه القضية، وقدم مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية ، التي شهد المجتمع الدولي، بجديتها ومصداقيتها، وهيأقصى ما يمكن للمغرب أن يقدمه.
وبشكل واضح وجلي، "محطئ من ينتظر من المغرب، أن يقدم أي تنازل آخر. ولا مجال لتقسيم البلاد بعد أن وهبها الله التوحد تحت على واحد، بعد أن تمكن العرش العلوي والشعب المغربي ممثلا في مقاومته الباسلة من تحريرها من الاستعمار الإسباني.
خلاصة القول أن الخطاب الملكي سيكون له ما بعده، فهو مقنع للصحراويين، ومحبط للجزائريين وقادة الانفصال، خاصة أن الملك إذا وعد وفى، وقد وعد بإطلاق تنمية شاملة في الأقاليم الجنوبية، وتوعد دعاة الانفصال ومن آزرهم بأن مصير جهودهم إلى فشل لن تقوم لهم قائمة بعده.