رئيس التونسي مقل جدا في تنقلاته للخارج. والمرات القليلة التي طار فيها بعيدا عن بلاده، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. وهذا في حد ذاته قد يكون مشكلا، لكن ما مصير الدعوات التي وجهها له بعض القادة، كالعاهل المغربي محمد السادس حين عرض عليه مطلع العام الماضي في مكالمة هاتفية، أن يحل ضيفا على المغرب؟ هل سقطت بمفعول الزمن؟ أم أنها ما زالت قائمة؟ وهل تبدو الاستجابة لها ممكنة في هذا الظرف، أم أن مياها كثيرة جرت تحت جسر العلاقة بين البلدين، وجعلت الأمر، وعلى المدى القصير، على الأقل، يبدو متعسرا وحتى مستبعدا؟
ربما سيتساءل المهونون والمقللون من أهميتها، ومن النتائج المنتظرة منها، عما إذا كانت ضرورية في هذا الوقت بالذات. غير أن من يعرف حاجة تونس لأن توازن جيدا في علاقاتها بين جاراتها المغاربيات الأربع، خصوصا بين جارتيها الكبيرتين الجزائر والمغرب، سيدرك حتما مغزى التساؤل عن سر تأخر زيارة الرئيس التونسي للمغرب، بعد أن كانت عدة مؤشرات تدل، في أعقاب تلك المكالمة الهاتفية بالذات، على أنها باتت وشيكة جدا، إلى حد أن أكثر من جهة إعلامية، كصحيفة «الأسبوع» المغربية مثلا تحدثت حينها نقلا عن جهات وصفتها بـ»الموثوقة» عن أن «ديوان الرئاسة التونسية دشن اتصالات متعددة المستويات، لتنظيم زيارة قيس سعيد إلى المملكة، فور تخفيف إجراءات الطوارئ المرتبطة بتفشي جائحة كورونا، وعلى رأسها استئناف رحلات الطيران المدني».
فما الذي جرى إذن لتتوقف تلك الاتصالات وليترك الملف جانبا؟ لقد هبّت كما يبدو رياح كثيرة في الاتجاه المعاكس. ورغم أن الطرفين فضّلا التكتم على الأسباب الحقيقية لذلك التأجيل، أو ربما الإلغاء، إلا أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن تعلن الرباط وبشكل مفاجئ عن قرارها غلق أجوائها أمام الطائرات التونسية، اعتبارا من الخميس الماضي، رغم أن المبرر شبه الرسمي لذلك هو انتشار وباء كورونا بشكل كبير في تونس، فضلا عن البطء الملحوظ في حملة التطعيم فيها. ومهما كانت الدوافع، فلا أحد ينكر أنه، وعلى مدى الأسابيع والشهور التي سبقت، كان هناك قدر من القلق والانزعاج في الرباط، مما اعتبرته برودا وفتورا، وربما جفاء رسميا غير مبرر، وهجوما إعلاميا غير مقبول من طرف جهات إعلامية غير رسمية في جارتها المغاربية. ولم يكن ذلك سوى محصلة لتراكم عدة أحداث ومعطيات. فهل فاضت الكأس المغربية أخيرا، وأعطت جائحة كورونا مبررا إضافيا للمغاربة، لان يوجهوا للتونسيين رسالة تعبر، ولو بشكل غير مباشر عن بعض ذلك القلق والانزعاج؟ لقد كان لافتا أن آخر مرة مدوا فيها يدهم إلى تونس، حصلت مطلع الصيف الماضي. ففي العاشر من يونيو/حزيران الماضي، وصل وزير الخارجية المغربي الناصر بوريطة إلى العاصمة التونسية، محملا برسالة شفوية من العاهل المغربي إلى الرئيس التونسي. وأصر بوريطة على أن يقول للصحافيين، قبل أن يغادر قصر قرطاج، إن الزيارة كانت «أول زيارة خارجية لوزير خارجية المغرب منذ شهر مارس/آذار، أي من تاريخ إغلاق الأجواء المغربية وإعلان الحجر الصحي وإن «الملك اختار أن تكون لتونس».
أما عن المضمون فقد اكتفى المبعوث المغربي، بأن أشار إلى الرسالة الشفوية التي نقلها للرئيس قيس سعيد «تتعلق بالعلاقات الثنائية وتطويرها، وكذلك بالوضع الإقليمي والدولي». وكان كل شيء يوحي في ذلك الوقت بأن الأمور قد وضعت على السكة. لكن اتضح بعدها بشهور أن لا شيء تحرك على الإطلاق. ولم يعد أحد يتحدث عن لقاء قريب بين محمد السادس وسعيد. وهنا فإن التفسيرات تكاثرت وتعددت واختزلت في تأويلين، فهناك من وجد في انشغال الرئيس التونسي المبالغ ربما بالملفات والقضايا الداخلية، المبرر المنطقي لتأجيل البحث في المسألة لوقت آخر. وهناك من أرجع ذلك وبشكل أساسي للتغييرات العميقة والمتتالية التي حصلت داخل الديوان الرئاسي، خصوصا في الدائرة المحيطة بالرئيس والدور الذي قد يكون لعبه بعض المستشارين الرئاسيين، في تغيير البوصلة، وترك ملف الزيارة على الرف، لأكثر من اعتبار يخص تصورهم لطريقة التعامل مع الملفات الخارجية لتونس. ولكن الملاحظة التي غابت عن كلا التفسيرين هي أن لا أحد منهما تطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى وجود نزعة جديدة باتت تهدد بفقدان التوازن التقليدي في تعامل الدبلوماسية التونسية مع الجارتين المغاربيتين الجزائر والمغرب، ولا أحد منهما شرح سر تزامن البرود في العلاقات مع المغرب مع حالة من الدفء والتقارب الشكلي مع الجزائر، إلى الحد الذي خرج فيه وزير الخارجية التونسي في يناير/كانون الثاني الماضي في أعقاب مقابلة مع الرئيس سعيد، بتصريح غريب لوسائل الإعلام قال فيه، إنه أجرى محادثات مع نظيره الجزائري صبري بوقادوم «حول إمكانية حصول تونس على جزء من لقاحات كورونا، التي اقتنتها الجزائر، في إطار حملة التطعيم التي ستبدأ قريبا» وأن تلك المحادثات «انتهت بالموافقة الجزائرية الفورية على منح تونس جزءا من لقاحات كورونا، فور تسلمها للدفعة التي ستصلها» من قبل أن تصدر السلطات الجزائرية أي بيان رسمي في الموضوع . وربما تكون الحساسية المفرطة التي يتعامل بها التونسيون عادة مع ملف العلاقات مع الجزائر، هي التي جعلتهم يتجاهلون أي إشارة إلى إمكانية وجود فرضية تأثير أو ضغط، قد تكون الجارة الكبرى مارسته على تونس، حتى لا تندفع بشكل كبير نحو غريمتها المغربية.
ولعل واحداً من الأسباب التي قد تبرر إقدامها على ذلك هو حرصها على أن لا يستغل المغاربة أي تقارب مع تونس، على اعتبارها الآن العضو المغاربي والعربي الوحيد غير الدائم في مجلس الأمن، للتأثير في موقفها من الملف الصحراوي، في اتجاه تبني المقاربة المغربية للحل. ورغم أن المغاربة يدركون هنا أن تخلي التونسيين عن موقفهم التقليدي من نزاع الصحراء، وانحيازهم لوجهة نظر الرباط، لن يكون بالأمر السهل، وأن العائق الأكبر الذي يمنعهم من ذلك هو قربهم من الجزائر، إلا أنهم لم يقبلوا ما اعتبروه انحيازا غير رسمي من داخل تونس للموقف الجزائري من الأزمة الصحراوية، خصوصا بعد تعليق إحدى الإذاعات المحلية عن مسألة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، ما اقتضى تدخل سفارتهم في تونس بشكل لافت، عبر إصدار بيان إعلامي شديد اللهجة ردا على ما وصفته «بالمغالطات والأراجيف والأكاذيب السخيفة، المطعمة بتوابل الأيديولوجيا البالية». ولكن ما الذي بوسع تونس أن تقوم به الآن، لتعديل ما يبدو خللا في التوازنات بين الجارتين؟ وهل إنه لا خيار لها إلا أن تبقي كل بيضها في السلة الجزائرية؟ ربما يترك حديث الرئيس التونسي في طرابلس عن نيته تفعيل الاتحاد المغاربي، بصيصاً من الأمل في تدارك الفرصة والقيام قريبا بزيارة الرباط، وربما حتى نواكشوط. ولكن هل سيكون بوسعه حقا فعل ذلك؟ وهل سيقدر على تحمل تكلفة قراره؟ المؤكد أن أكثر من عامل سيحسم في ذلك.
نزار بولحية - كاتب وصحافي من تونس