1 . في السياق العام للعلاقات المغربية- الإفريقية
منذ أكثر من عقد من الزمن باتت القارة الإفريقية مثار اهتمام العديد من دول العالم، المتقدم منه والذي في طريق النمو سواء بسواء، والواقع أنه في الوقت الذي تَعْرِف فيه نسب النمو بالدول المتقدمة والصاعدة تراجعًا وانحسارًا، وفي أحسن الأحوال استقرارًا؛ فإن إفريقيا بناتجها الداخلي الخام الذي يتجاوز الـ 200 مليار دولار، تعرف نسب نمو مستمرة تتعدى في المتوسط 6% في السنة.
بموازاة ذلك، ضخ المستثمرون الدوليون الباحثون عن جيوب ربحية جديدة، ما يناهز الـ 56 مليار دولار بإفريقيا في أواخر عام 2013، مقابل 53 مليارًا فقط في عام 2012؛ أما المبادلات التجارية فقد تجاوزت الـ 1200 مليار دولار أواخر عام 2012؛ في حين لم يكن الحجم ذاته ليتجاوز الـ 600 مليار دولار سنة 2005(1).
وبقدر تكثف المبادلات التجارية بين إفريقيا والعالم الخارجي، فقد تنوَّع فرقاؤها الاقتصاديون تنوعًا قل نظيره في مناطق أخرى من العالم؛ لا بل باتت القارة وجهة اقتصاديات صاعدة؛ وذلك على حساب القوى الاقتصادية الاستعمارية التقليدية؛ فالصين قد أضحت فاعلاً مركزيًّا بالقارة الإفريقية؛ إذ باتت شريكها الأول بحجم مبادلات تجارية يتجاوز الـ 200 مليار دولار سنة 2012؛ وذلك على حساب الولايات المتحدة الأميركية التي لم تتجاوز مبادلاتها التجارية الـ 100 مليار دولار في السنة نفسها، كما أن الهند وتركيا وماليزيا وكوريا الجنوبية والبرازيل، قد دخلت هي الأخرى على الخط، وبات لها نصيب معتبر من التبادلات التجارية ومن الاستثمارات مع إفريقيا(2).
لا يقتصر رهان هذه الدول على إفريقيا كونها منجمًا ضخمًا للمواد الأولية الطبيعية والمنجمية على حدٍّ سواء؛ بل يتعداه ليطاول سوقًا داخليًّا استهلاكيًّا ضخمًا يقدر بمليار نسمة حاليًّا؛ وسيصل حسب التقديرات إلى أكثر من مليارين في أفق عام 2050؛ وذلك بحكم تسارع ظاهرة التمدن، وتكوُّن طبقات اجتماعية متوسطة مهمة، من شأنها أن تؤسس لنموذج في التنمية مرتكز على الطلب الداخلي، وليس على ما تُدِرِّه الصادرات الأولية.
هذا الفضاء الجغرافي، الاقتصادي والاجتماعي والبشري مترامي الأطراف، لم يكن ليترك المغرب في وضعية حياد سلبية؛ بل دفعه إلى صياغة توجهات دبلوماسيته وسياسته الاقتصادية باستحضار هذا الواقع والبناء على معطياته.
لذلك، فإن زيارات الملك محمد السادس المكثفة للقارة الإفريقية، لاسيما دول غرب القارة إياها، إنما تنهل من معين هذه التوجهات الجديدة؛ التي تحاول القطع مع ممارسات البلدان الاستعمارية، لتضع أسسًا جديدة لتنمية متبادلة متكافئة بين بلدان الجنوب، تأخذ أشكال مشاريع اقتصادية عملية؛ لكن بنكهة إنسانية واجتماعية وثقافية متميزة.
ولذلك -أيضًا- فإن النزوع المتزايد للشركات المغربية (في البنوك، والاتصالات، والتأمينات، والأشغال العمومية، والنقل، والطاقة.. وغيرها) للاستثمار بقوة في البلدان الإفريقية جنوب الصحراء، إنما يجد تفسيره ومسوغه ومحفزه في تطلع المغرب إلى إعادة إحياء البُعد الإفريقي، الذي طالما اعترضته الحسابات السياسية، أو حالت دون تجذُّره التوازنات الإقليمية أو الحروب البينيَّة أو ما سوى ذلك.
بيد أن هذا الطموح المتزايد للمغرب في إفريقيا، لا يجب أن يخفي حقيقة أن مستوى تبادلاته التجارية معها لم يتجاوز الـ 4 مليارات دولار سنة 2012؛ مما يصنفه -بالمغرب العربي مثلاً- ضمن المرتبة 48 في ترتيب الشركاء التجاريين لإفريقيا، بعد الجزائر (المرتبة 41)، وتونس (المرتبة 38).
بالمقابل، فإن التوزيع الجغرافي للتيارات التجارية للمغرب مع الخارج، يبين أن إفريقيا هي رابع حليف تجاري إقليمي للمغرب فقط؛ بما نسبته 6.5% فقط من حجم التجارة الخارجية العامة للمغرب؛ وذلك في حين تبقى أوروبا الحليف التجاري الأول بأكثر من 62% من مجموع التبادلات، ثم آسيا بـ 19%، ثم أميركا بـ 12%(3).
أمَّا من زاوية بنية هذه المبادلات، فيبدو أنها لا تزال تمتح من طبيعة العلاقات التي كانت سائدة تقليديًّا بين إفريقيا ومستعمريها الغربيين؛ إذ يستورد المغرب من إفريقيا حوالي نصف حاجياته من الغاز وباقي المشتقات النفطية، ويصدر إليها سلعًا صناعية أو نصف مصنعة، مكونة أساسًا من مصبرات السمك والأسمدة الطبيعة والكيماوية وما شابه، وهي كلها مبادلات حصرًا على دول فرنكفونية بعينها؛ حيث تمثل المبادلات التجارية بين المغرب من جهة، والسنغال وموريتانيا وغينيا وساحل العاج والغابون وغامبيا ومالي من جهة أخرى، حوالي ثلث صادرات المغرب لبلدان إفريقيا جنوب الصحراء.
لكن المفارقة هنا أنه في الوقت الذي يتزايد فيه منسوب المبادلات التجارية بين المغرب وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء؛ فإن حجم الاستثمارات المغربية المباشرة بهذه البلدان لا يتطور بالوتيرة نفسها؛ ففي حين كانت هذه المبادلات تمثل ضعف حجم تيارات الاستثمار في عام 2009؛ فإن هذا الفارق قد تجاوز السبع مرات في عام 2013، وهو ما تعمد التوجهات الاقتصادية للمغرب تداركه في الشكل والمضمون؛ وذلك في إطار استراتيجيته "الجديدة" بإفريقيا.
2. في مسار العلاقات المغربية-الإفريقية
على الرغم من أن المغرب لا يبعد عن أوروبا إلا بحوالي 14 كيلو مترًا، فإنه لم يتنكر يومًا لهويته الإفريقية؛ بل اعتبر البعد الإفريقي عنصرًا جوهريًّا من عناصر هويته العربية/الإسلامية، مؤسسًا وليس مكملاً لها، والمقصود بالهوية الإفريقية للمغرب تلك الروابط الحضارية الضاربة في القدم؛ التي تشد المغرب إلى القارة التي ينتمي إليها؛ وهي هوية مبنية على عناصر التاريخ والجغرافيا والعلاقات الإنسانية؛ لكنها مبنية في الآن ذاته على قيم ثقافية واحدة. وعلى علاقات روحية عميقة؛ إذ انتشر الإسلام في دول غرب إفريقيا وبلدان الساحل، انطلاقًا من المغرب وعلى يد الحركات الدينية والزوايا الصوفية؛ كالزاوية التيجانية والزاوية القادرية؛ اللتين لهما بهذا الجزء من إفريقيا أتباع كثر.
ومع أن المغرب كان ضمن الآباء المؤسسين للمنظمات الإفريقية الأولى (منظمات ما بعد الاستقلالات السياسية)، لاسيما منظمة الوحدة الإفريقية، فإن اعتراف هذه الأخيرة، في عام 1982، بجبهة البوليساريو، قد أسهم إلى حد كبير في تسميم العلاقات المغربية-الإفريقية؛ إذ بعد انسحاب المغرب من المنظمة في عام 1984، لم تعد الدبلوماسية المغربية تشتغل إلا عبر "أطراف صديقة" لثني المعترفين بالجبهة إلى سحب اعترافهم بها، على اعتبار أن مشكل الصحراء هو بين المغرب والجزائر، وليس بينه وبين باقي بلدان المحيط الإفريقي.
لم تتغير مواقف المغرب كثيرًا؛ بل إن الذي تغير إنما شكل المقاربة ومضامينها؛ التي ركب المغرب ناصيتها وأعطاها زخمًا كبيرًا على المستوى العملي؛ إذ لم يعد الملك يصطحب في جولاته الإفريقية "وزراء السيادة"، أو أفراد الحاشية السياسية المقربين؛ بل بات محاطًا في معظم جولاته بالوزراء ذوي الاختصاص المباشر، والمرتبط بطبيعة الزيارة، وكذا برجال الأعمال الفعليين؛ سواء من القطاعات الإنتاجية العمومية أو من القطاع الخاص، وهو ما يَظْهَر بقوة في مشاريع التعاون القطاعي، والبنى التحتية، والنقل، والاتصالات، وقطاع المصارف والتأمينات، وقطاع الصناعات الخفيفة، وما سوى ذلك(4).
بالتالي، فنحن هنا إزاء تصور "جديد" يركب ناصية الاستثمار المباشر ونقل الخبرات والمعارف، عوضًا من الارتكان إلى علاقات مبنية -كما في الماضي- على تبادل السلع الفلاحية وشبه المصنعة بين الطرفين.
يقول الملك محمد السادس، بخصوص هذا التصور، في رسالة للمنتدى الاقتصادي المغربي/الإيفواري بأبيدجان: إن "إفريقيا قارة كبيرة، بقواها الحية ومواردها ومؤهلاتها، يجب أن تأخذ مصيرها بيدها؛ لأنها لم تعد مستعمرة؛ لذلك فإن إفريقيا يجب أن تضع الثقة في إفريقيا، إنها بحاجة أقل للمعونة، وتحتاج إلى المزيد من الشراكات ذات الفائدة المتبادلة، إنها ليست بحاجة إلى المساعدة الإنسانية؛ بل إلى مشاريع في التنمية الاقتصادية والاجتماعية"(5).
وعلى الرغم من أن الملك محمد السادس يتحدث هنا عن القارة بوجه عام، فإن وجهات تحركاته وزياراته إنما تشي بالأفضلية المعطاة لبلدان غرب إفريقيا؛ لذلك نلاحظ أن كبريات المجموعات الاقتصادية والمالية والخدماتية المغربية (العمومية كما الخاصة) قد واكبت هذا التوجه السياسي؛ وذلك باستثمارات مهمة بموريتانيا والسنغال ومالي والكونغو وغامبيا وغينيا وما سواها، ونلاحظ -أيضًا- أن النسبة المعتبرة من المعاهدات وعقود المشاريع والاتفاقيات الثنائية وغيرها، غالبًا ما تتم مع هذه البلدان إما على شكل استثمارات مباشرة، أو عبر امتيازات متبادلة بين الطرفين.
بامتداد لذلك، وبحكم موقعه الجيوستراتيجي المتميز، فإن المغرب قد راهن -منذ أواسط العقد الأخير- على أن يكون نقطة عبور للاستثمارات الأوروبية والأميركية والخليجية، المتطلعة لتمويل مشاريع استثمارية بإفريقيا جنوب الصحراء، ولعل التعبير الأمثل لذلك هو إنشاؤه لمحطة "الدار البيضاء فاينانس سيتي"؛ التي من مهامها استقطاب الاستثمارات العالمية، وتزويدها بالبنية التحتية وبالمعطيات الإضافية، التي تمكِّنها من تعظيم أرباحها بإفريقيا الشمالية وإفريقيا الغربية وإفريقيا الوسطى.. وغيرها.
المغرب -بهذا النموذج- لا يتطلع إلى تأدية دور الوسيط المحايد؛ بل يراهن على تكريس تعاون ثلاثي "جديد"، يندرج ضمن العلاقات شمال-جنوب وجنوب-جنوب، يستفيد منها المغرب دون شك، ويفيد منها أيضًا دول إفريقيا جنوب الصحراء؛ وذلك على شكل نقل للتكنولوجيا أو للخبرات، أو للأنماط الجديدة في تدبير المشاريع وتسيير الموارد اللوجيستية والبشرية.
ونتيجة لهذا التوجه الجديد (توجه التعاون الثلاثي) استفاد العديد من دول غرب إفريقيا من دعم مالي مهم (متأتٍّ من أوروبا واليابان والولايات المتحدة الأميركية) لإنجاز مشاريع تنموية ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، موجهة بالخصوص إلى قطاعات التربية والتعليم، والصحة والفلاحة والنقل والري العصري، ومد شبكات الماء الصالح للشرب، ومعالجة المياه، والكهرباء القروية والحضرية، وتقوية القدرات الوظيفية والعملياتية.. وغير ذلك.
وقد حصل المغرب على المرتبة الثانية في استقطاب الاستثمارات بإفريقيا بعد جمهورية جنوب إفريقيا(6)، واستطاع بذلك أن يدفع شركات متعددة الجنسيات إلى فتح مكاتب جهوية لها بالمغرب (مايكروسوفت، هاوليت باكارد، آي. بي. إم، سيسكو.. إلخ) وأن يدفع العديد من الشركات إلى نقل جزء من مصانعها إلى المغرب، لتصنيع سلع موجهة لإفريقيا جنوب الصحراء بشكل خاص.
3. في خلفيات التوجهات الإفريقية "الجديدة" للمغرب
رغم ما قلنا وما قد يقال، عن التوجهات "الجديدة" للمغرب باتجاه إفريقيا في عهد محمد السادس، فإن تحليل التواجد المغربي بإفريقيا لا يخرج بكل الأحوال عن أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن ما يقوم به المغرب في إفريقيا لا يخرج كثيرًا عن دور المناولة الذي تتكفل به الشركات المغربية في بعض الجيوب التي استوجبها أو يستوجبها التوزيع العالمي الجديد للعمل؛ حيث يشتغل لفائدة الفاعلين الاقتصاديين الدوليين أو المستثمرين الأجانب، الذين أعادوا النظر في تموقعاتهم بجهة آسيا وأميركا اللاتينية وغيرها.
لذلك فعلى الرغم مما قد يبدو تراجعًا للمبادلات التجارية والاستثمارية بين إفريقيا والدول المستعمرة لها سابقًا، فإن حجم تلك المبادلات لم يتغير كثيرًا؛ إذ لا يزال لفرنسا مثلاً نصيب الأسد فيها.
أما الأمر الثاني: فيرتبط بمحاولة المغرب تنويع شركائه الاقتصاديين بالاتجاه صوب إفريقيا؛ وذلك في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعرفها شركاؤه التقليديون (بالاتحاد الأوروبي تحديدًا)، وانحسار الطلب التقليدي الذي كان المحرك الأساس للعلاقات بين طرفي المتوسط.
بالأمرين معًا، يبدو أن المحدد الجوهري للتوجهات الإفريقية الجديدة، هي محددات اقتصادية وتجارية في ظاهرها؛ لكنها مملاة من لدن طبيعة التوزيع العالمي الجديد للعمل، وليست اختيارًا طوعيًّا مستقلاًّ، كما قد يبدو الأمر لأول وهلة؛ إذا لم يكن الأمر كذلك فهل بمقدور المغرب أن يلج دولاً وجهات بإفريقيا هي حكر على فرنسا مثلاً؛ التي لم تتوانَ يومًا في اللجوء إلى القوة للذود عن مصالحها؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك؛ فهل كان للمغرب أن يتحرك بدبلوماسيته وفاعليه الاقتصاديين والماليين بهذه الجهة من إفريقيا، إذا لم يكن قد حصل على الضوء الأخضر بهذا المقابل، المادي أو الرمزي، أو ذاك؟ لا نظن ذلك حقًّا(7).
أما الخلفية المحددة الثانية لهذه التوجهات فذات طبيعة دينية صرفة؛ إذ ينظر الأفارقة المالكيون وأتباع الزوايا الصوفية إلى محمد السادس باعتباره زعيمهم الروحي بامتياز؛ والمالكية في عُرْف المغاربة والأفارقة ليست دينًا قائمًا؛ إنها ممارسة دينية تتغذى على مبادئ الوسطية في الإسلام، وتتبنى قيم التسامح والاعتدال والانفتاح على الآخر.
لذلك فقد ركب المغرب ناصية هذا "المذهب" ليطلق مبادرة تكوين الآلاف من الأئمة بالبلدان التي يزورها (ناهيك عن توزيع الآلاف من المصاحف أيضًا)، بل و توظيف هذا البعد الديني للوساطة في النزاع بـ"مالي" بين الحكومة المركزية وجماعة أزواد الانفصالية، وهي وساطة باركتها القوى الكبرى (لاسيما فرنسا والولايات المتحدة الأميركية)؛ على الرغم من معارضة الجزائر المعلنة للتوجه ذاته.
أما الخلفية الثالثة، فمن طبيعة جيوستراتيجية خالصة؛ إذ لا يقتصر مداها فقط على الإسهام في فض النزاعات الداخلية للبلدان الإفريقية المعنية؛ بل يتعداه إلى الإسهام في محاربة الإرهاب وتجارة السلاح، والحيلولة دون تدفق تيارات الهجرة لأوروبا؛ التي تتخذ من المغرب نقطة عبور مفضلة.
المغرب -بهذه الجزئية- لا يريد أن يظهر بمظهر الفاعل المباشر، مظهر "شرطي الحدود" بين إفريقيا وأوروبا، بقدر ما يتطلع إلى تخفيف الاحتقانات بمنطقة الساحل؛ وذلك عبر المشاريع الاقتصادية والاجتماعية المنتجة، ومن خلال الترويج لإسلام معتدل؛ الذي من شأنه قطع الطريق على سياسة استقطاب الشباب والزج بهم في صفوف الحركات المتطرفة والتكفيرية.
هذه كلها خلفيات جزء منها جلي، وجزء آخر مضمر؛ لكن ثمة خلفية نفسية نادرًا ما يولى لها الاهتمام الكافي، ومفادها عمل المغرب على توسيع رقعة الدول الإفريقية المتبنية -بهذا الشكل أو ذاك- لقضيته الوطنية، قضية الصحراء؛ إذ إن تزايد التواجد المغربي ببلدان إفريقيا الغربية، ليس من شأنه فقط ضمان "استمرارها على موقفها" من نزاع الصحراء؛ بل من شأنه -أيضًا- إغراء دول أخرى مناهِضَة لموقف المغرب؛ لكنها قد لا تمانع في تغيير رأيها إذا ما تم تغليب المصلحة المباشرة من لدن قادتها.
4. عن آفاق التوجهات الإفريقية "الجديدة" للمغرب
قد يبدو أن آفاق التواجد المغربي بإفريقيا (بغربها اليوم وبباقي جهاتها في المستقبل) آفاق مغرية وواعدة، على الأقل بالقياس إلى الاندفاع المتزايد للمغرب بهذا الجزء من العالم، منذ وصول الملك محمد السادس إلى الحكم؛ وقد يبدو أن ذات التوجه لا يمكن إلا أن يتجسد وينجح؛ وذلك بحكم أنه يدخل ضمن سياق التعاون شمال-جنوب ثم جنوب-جنوب، الذي لا يتعارض كثيرًا مع طبيعة التقسيم العالمي الجديد للعمل، وقد يبدو أن هذا التوجه لا يمكن إلا أن يتعمق، كونه لا يمتح من منطلق استغلال هذه البلدان، والإفادة من التميز الكبير الذي تعرفه بالمجالات الاقتصادية، كما بالمجالات الاجتماعية والصحية والتعليمية وما سواها(8).
هي كلها آراء لا تجانب عين الصواب كثيرًا؛ إلا أن هذه التوجهات تبقى مع ذلك رهينة مجموعة من العوامل، قد تحدُّ من مداها، وقد تحول دون المضي فيها إلى الأمام بسلاسة:
العامل الأول: يتمثل في أن هذه التوجهات تبقى مرتبطة بمستوى الاستقرار القائم أو القادم بهذه البلدان، لاسيما أن إفريقيا قد باتت برمتها على صفيح حروب طائفية وعرقية وإثنية تنفجر دون سابق إنذار، ناهيك عن قدرة التنظيمات المسلحة على زرع الفوضى بهذه البلدان؛ ونجاح بعضها في الاستيلاء على مناطق كاملة بهذه الدولة الإفريقية أو تلك.
لو علمنا أن الاستثمار لا يتماهى دائمًا مع حالات اللا استقرار، فإن سيناريوهات من هذا القبيل إن وقعت، من شأنها أن تنفر رجال الأعمال المغاربة (وغيرهم)، وتحول دون دور "الوسيط المالي الجهوي"؛ الذي يراهن عليه المغرب في توجهاته الجديدة.
العامل الثاني: يتمثل في نسبية قدرة المغرب على مواجهة المنافسة حامية الوطيس؛ التي تدور رحاها بكل جهات القارة الإفريقية، ليس فقط بين الفرقاء التقليديين؛ بل أيضًا من لدن القوى الاقتصادية الصاعدة، وقد يتخصص المغرب في بعض الجيوب الاقتصادية "الآمنة" ويكتفي بها؛ لكنه لا يتوفر على القوة، ولا على الضمانات الكافية للاحتفاظ بها، لاسيما لو تطلع المنافسون الكبار إلى ولوجها، أو أفرزت تحالفاتهم الاستراتيجية واقعًا جديدًا قد لا يستطيع المغاربة مجاراته.
أما العامل الثالث فيكمن في العلاقة السببية التي تربط معادلة التواجد المغربي بهذا البلد الإفريقي أو ذاك، بالقضية الوطنية التي تعتبر مصيرية بالنسبة للمغرب؛ والتلميح هنا إنما يتعلق بفرضية أنه لو قُدِّر لبلد ما من البلدان التي يراهن عليها المغرب، أن يعتمد موقفًا مناهضًا لقضية المغرب تحت هذا الضغط أو ذاك (أو باستقطاب على أساس من شراء الذمم)، فسيكون من المستحيل على المغرب أن يستمر في نهجه، أو يتغاضى عن تواجد فاعليه الاقتصاديين بذات البلد.
وبقدر أهمية التواجد المغربي بهذه البلدان كإطار جديد للعمل جنوب-جنوب، بقدر هشاشة الركائز التي يتكئ عليها البنيان لتثبيت مفاصله. وهذا ما سيضع هذه التوجهات على المحك عاجلاً أم آجلاً.
_________________________________
د. يحيى اليحياوي: جامعة محمد الخامس، الرباط.
مراجع الدراسة
(1)- راجع في تفاصيل المعطيات الإحصائية:
Amadeus, «Partenariat Maroc-Afrique : 15 recommandations pour un co-développement responsable et durable», Institut Amadeus, Rabat, Juillet 2014.
(2)- راجع دراستنا: يحيى اليحياوي، "الصين في إفريقيا بين متطلبات الاستثمار ودوافع الاستغلال"، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 9 من يونيو/حزيران 2015.
(3)- انظر:
Ministère de l’économie et des finances (Maroc), «Point sur les relations du Maroc avec les pays de l’Afrique subsaharienne», Rabat, Mai 2014.
(4)- في تفاصيل التواجد المغربي بإفريقيا قطاعًا بقطاع، انظر:
Mekouar. F, «Le Maroc à la conquête de l’Afrique», Regards, n° 3, 2013.
(5)- رسالة محمد السادس إلى المنتدى الاقتصادي المغربي/الإيفواري، أبيدجان، 24 من فبراير/شباط 2014.
(6)- انظر:
Ernst et Young, «Africa attractivness survey», 2013.
(7)- راجع في تفاصيل هذه النقطة:
Lorgeoux. J et Alii, «La présence de la France dans une Afrique convoitée», Rapport, Sénat, Paris, 2013.
(8)- راجع: يحيى اليحياوي، "الصين في إفريقيا بين متطلبات الاستثمار ودوافع الاستغلال"، مرجع سابق.
د. يحيى اليحياوي
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات