تعتبر كلمات الوئام الاجتماعي ،اللحمة الاجتماعية، السلم الأهلي و الانسجام الاجتماعي ببلادنا "لازمة" النظم الأساسية و الإعلانات العامة و الأوراق التأطيرية و البيانات الظرفية و التقارير الدورية لكل الهيآت العمومية و الأحزاب السياسية و المنظمات المدنية و التجمعات المهنية و "خزانات التفكير" Think Tankالإصلاحية و هيآت البحث و الاستشراف و "الإنذار الاجتماعي" المتخصصة. مما يدل علي أن "الحالة الاجتماعية" بالبلد أصبحت أم الشواغل الوطنية الأمر الذي يفرض علي الجميع – فرض عين- اقتراح و اتخاذ عاجل و ناجع االسياسات و البرامج من أجل صيانة اللحمة الاجتماعية لمكونات شعبنا و هي ما زالت -حسب موقع نظري- في طور "الصدع الاجتماعي"La fissure sociale " و قبل أن تتطور إلي مراحل "الاستقطاب" أو "الخطر" أو "الصدام" أو" الكسر" أو "نذر التفكك" لا أذن الله.
و أوكد ما يجب أن ينعقد عليه الإجماع الوطني في هذا المجال هو اعتبار مسألة اللحمة الاجتماعية موضوعا " منزوع الدسم السياسي" خلوا من مفردات قاموس التجاذب و السجال و الاستقطاب و المغالبة السياسية الذي أصبح " الخبز اليومي" للموريتانيين الذين أضحي سوادهم الأعظم سياسيين بالإرادة أو بقوة "تيار التسيس بلا حدود".
و لا مراء في أن القائمين علي الشأن الوطني حاليا فطنوا من أول يوم إلي حجم الصدع الاجتماعي لذلك كان شعار الانحياز للفقراء عنوان سياسة عمومية قد يختلف الساسة وفق تباين مواقعهم موالاة و معارضة و المحللون طبقا لزوايا معالجتهم حول نجاعة أدواتها و مقروئية نتائجها لكن من شيم الأشراف الاعتراف بأن تلك السياسة و ضعت مسألة اللحمة الاجتماعية في صدارة المشهد السياسي و التنموي و الإعلامي.
لكن الغائب الأكبر في مجال مكافحة الصدع الاجتماعي هو السياسة الحضرية و الإسكانية التي تشجع إن لم تكن تفرض التساكن العرقي و الطبقي في أحياء سكنية واحدة خصوصا بالمدن الكبري سبيلا إلي تذويب الفوارق و تقريب و تنمية المشترك ابتغاء خلق وحدة مجتمعية متنوعة لكن متناغمة بحيث يمثل كل حي سكني "وطنا صغيرا" يترجم وحدة الوطن و تنوع المواطن.
و لا يحتاج أي مراقب لكبير تأمل ليدرك مخاطر غياب السياسات الإسكانية و الحضرية الراشدة علي بلادنا و ما نجم عنها في كثير من الأحيان من مظاهر السكن العشوائي و التقري الفوضوي و التجاور و التساكن العرقي و الطبقي و الفئوي و القبلي في شكل "شبه غيتوهات" أو قطع و عوازل حضرية و مؤسسات تعليمية "شبه صافية" العرق أو اللون أو الشريحة أو الجهة أو المستوي الاقتصادي...
و قد لا أجانب قصيا الصواب إن قلت إن غياب سياسة التساكن العرقي و الطبقي هي أهم أسباب الصدع الاجتماعي إضافة إلي عوامل "الإرث الاسترقاقي" و بقايا و رواسب ثقافة السيبة و "عمي" بعض السياسات القطاعية الاجتماعية و المسؤولية التقصيرية الكبري لكل السياسيين و النخب الفكرية و رجال الإسلام و العلم الشرعي في استشراف حلول شرعية و قانونية و تنموية لنزع فتيل خطر التوتر الاجتماعي.
و عليه فإن الحاجة ماسة اليوم إلي صياغة مقاربة شاملة و متناغمة في شكل برنامج وطني كبير أو هيئة عمومية عالية المستوي ( وزارة دولة مثلا) لتعزيز اللحمة الاجتماعية و صهر الفوارق و تحقيق العدالة الاجتماعية و تدارك الصدع الاجتماعي الذي يستغله بعض "الأعداء الطبيعيين" للمشروع الوطني العام من أجل المساس باستقرار البلد.
علي أن تحال إلي الهيئة المقترحة اختصاصات كل القطاعات العمومية و البرامج الخاصة الممولة وطنيا أو أجنبيا العاملة في المجالات ذات الصلة بالسلم الأهلي و توطيد اللحمة الاجتماعية و يحسن أن يعهد تسييرها إلي شخصية وطنية من العيار الثقيل مشهود لها إجماعا بالكفاءة و الاستقامة و الاستقلالية الفكرية و القدرة المالية( الغني عن فتات الراتب و البعد عن شبهات التسيير) و الفهم الثاقب لأمهات القضايا الوطنية.
كما ينبغي أن توجه إلي الهيئة المذكورة اقتطاعات كبيرة من عائدات الثروات الوطنية الطبيعية( الحديد، الذهب، النحاس، السمك،...) بالإضافة إلي عائدات رسم ضريبي علي الأغنياء يسمي "رسم التضامن الاجتماعي علي الثروة" إشعارا للفقراء بمساهمة الأغنياء المباشرة في المجهود الوطني لرأب الصدع الاجتماعي ابتغاء إذهاب غيظ الفقراء و تخفيف الاحتقان الطبقي الذي هو حصب الصدع العرقي و الشرائحي.
و ينبغي أن تكون مكونة التساكن العرقي و الطبقي إحدي أهم مكونات هذا البرنامج الوطني الكبير علي غرار ما هو متعارف عليه بكل الدول التي تتميز بالتنوع العرقي و تعاني من التفاوت الطبقي و التي تًنصح عادة بانتهاج سياسات إسكانية و حضرية موجهة لتحريض الاندماج الاجتماعي و محاربة الانكفاء العرقي و الطبقي و "تحت العرقي"infra ethnique.
و يعرف هذا النوع من السياسات عبر دول العالم تحت مسميات مفتوحة كالاندماج الاجتماعي، محاربة الفوارق الاجتماعية،العدالة الاجتماعية و الانسجام الاجتماعي:... كما فد يأخذ مسميات خاصة كسياسة "الاختلاط الاجتماعي" Mixité sociale بفرنسا التي حققت بعض النجاحات في مجال تخفيف الفوارق بين الفرنسيين الأصليين و الفرنسيين من أصول عربية و إفريقية و سياسة "الصحن الصاهر" "Melting Pot" بالولايات المتحدة الأمريكية الموجهة إلي تطبيع العلاقة بين البيض و السود الأمريكيين.
المختار ولد داهي
سفير سابق
خبير إعداد و تقييم السياسات العمومية