صدر في بيروت كتاب (الحُسْوة البيْسانيّة في علم الأنساب الحسانية) تأليف محمد صالح بن عبد الوهاب الناصري ت1271هـ بتحقيق ودراسة وتعليق ومراجعة الأستاذ الدكتور حماه الله ولد السالم أستاذ التاريخ الحديث بجامعة نواقشوط والمختص في تاريخ الفكر الإسلامي.
وتعتبر الحسوة أهم مصدر عن تاريخ وأنساب قبائل بني حسّان التي يعود تاريخ وجودها في المغرب الكبير إلى عهد الهجرة الهلالية التي تمت في بحر القرن الخامس الهجري، وفيه قذف صعيد مصر بكتلة هائلة من القبائل العربية الهلالية والسليمية، إلى بلاد أفريقية وما حاولها، لينتهي التطواف بفرع منها هو قبائل معقل عند تخوم جنوب الجزائر والمغرب، وليتغلغل فرعها المسمى أولاد حسّان في البلاد الصحراوية الأطلسية الكبرى.
خلفت هذه الموجة "الأعرابية" آثارا عميقة على البلاد والعباد، إذ هزّت كيان الوحدات السياسية والاجتماعية التي تشكلت منذ العهد المرابطي، وقلصت من هيمنة الدول الأفريقية بل دفعت ببعض امتداداتها جنوبا وعميقا نحو تخوم الغابة. ولكن اهم آثارها هو أنها نشرت لسانا عربيا عاميا سيُعرف بـ (الحسّانية) نسبة إلى تلك القبائل، رغم أنه، بالتقريب، هو لسان معظم الهلاليين، وأصبح منذ القرن الثامن (14م) اللسان المهيمن على مجال واسع يمتد شمالا بين بلاد تكْنة (في المغرب) وشرقا إلى توات (في الجزائر) وجنوبا نحو إقليم أزواد (شمال مالي) وفي كامل البلاد الموريتانية الحالية.
أخضع عرب الهجرة الحسانية "خصومهم" من صنهاجة الصحراء، تدريجيا، ثم تواشجت بينهم الأرْحام والأواصر، وكادت تختفي مظاهر التمايز "العرقي" و"اللغوي" بين الفريقين في بحر القرن الحادي عشر الهجري، وتعرّبت الأنساب والألقاب، وتبدّلت الأسماء والعلامات، وتغيّرت الأذواق الأدبية والاجتماعية، لكن السادة الجدد احتلوا أعلى السلم الاجتماعي، رمزيا وعمليا، واحتكروا اسم العرب، وكانوا ينزعونه عن من غلبوه وأخضعوه من بني العمومة، وقد يستحيل تابعا إلى الأبد. وتقاسموا البلاد إمارات ورئاسات، وشيعا وأتباعا، وإتاوات ومغارم، يفرضونها على الأتباع والضعفاء وأرْباب القوافل، ويتقاتلون من أجلها، وبذلك "كانت أرزاقهم في رماحهم" بعبارة ابن خلدون!
أنتج "تاريخ القسوة" ذاك، معجمه الخاص، وباصطلاحاته ومفاهيمه الدالة على تمجيد القوة والفروسية، والمعبّرة عن السلطة والهيمنة.
لكن تاريخ بني حسّان لم يكن مجرد غارات وصراعات، بل برز من بينهم، وفي وقت باكر، جم غفير من العلماء والفقهاء، لاسيما في النطاق الشرقي من البلاد الموريتانية الحالية.
لم يحظ تاريخ بني حسّان ولا أنسابهم باهتمام المؤلفين والكتاب، وغاليتهم من طبقة الزوايا، المغلوبة على "أمرها"، بل طال التشويه والحيف جوانب عديدة من أخبار تلك القبائل وعاداتها وأعمالها.
ولعل الحُسْوة هذه أول وثيقة تاريخية بقلم واحد من أبناء القبائل الحسانية، ومن أوفرهم علما وأوسعهم رحلة، في أقاليم الصحراء الكبرى، وصلة بالأمراء والفرسان والعلماء والأدباء. ولذلك جاءت مصادر الحُسْوة شفاهية أساسا، من أفواه الرجال، مع نقول صحاح وموارد ثمينة من التراث العالمي والشعبي.
ولذلك فقد حوتْ مباحث قيمة عن الاجتماع الحسّاني، ونظامه واصطلاحاته، فضلا عن قيمتها كمصنّف في الأنساب والتواريخ.
ومن هنا وجاهة تحقيقها ونشرها وجعلها بين ايدي الباحثين والمهتمين وعموم القراء في موريتانيا وخارجها.
ألّف محمد صالح بن عبد الوهّاب في أخْريات أيامه، فكانت خلاصة لعلمه ورحْلاته وتجاربه وصلاته بمعاصريه واطلاعه على أحوال بلده.
ولذلك جاءت () مُؤلّفا فريدا عن تاريخ قبائل أولاد حسّان وأيامهم وأنْسابهم وأخبارهم، وفروسيتهم ونحْلة عيشهم وأمزجتهم وثاراتهم وعاداتهم.
وكان المؤلّف في كل ذلك مؤرخا حقيقيا، يصدر أحكامه برويّة، ويحلل أسباب صعود القبائل وانهيارها، ويتتبع الأنساب والهجرة والحروب، بعقل ومنطق، حتى أنه أنتج معجمه التاريخي الخاص. كما لم يستنسخ آثار من سبقوه، من النسابة العرب المتقدّمين مثل ابن الكلبي وابن حزم،
ويعتبر تحقيق المؤرخ د. حماه الله ولد السالم لكتاب (الحسوة) أول تحقيق ونشر علمي لهذا المخطوط العربي الثمين.
وقد وعد بمشيئة الله بإصدار مخطوط نادر عن أنساب صنهاجة قد يغير جوهر المدونة الأنسابية والتاريخية للمجتمع الصنهاجي وحتى الأفريقي.
وبالله التوفيق