حينما تُسرع الخُطا ويصل قطار حياتنا إلى مرحلة منتصف العمر وما بعدها، يشعر البعض أن حياتهم قد مضت، وأن سنوات الشباب بثورتها وعنفوانها قد ولت وتركت بصماتها على النفس والعقل والجسد، سلباً وإيجاباً، فمرحلة منتصف العمر تعد منعطفاً هاماً في حياة الإنسان- رجلاً كان أم امرأة - وتؤثر مباشرة في جميع مجالات حياته وعلاقاته الاجتماعية، بكل مستوياتها، خاصة العلاقة الزوجية التي هي البذرة الأولى للأسرة، والتي تضم الزوجين اللذين بوصول أحدهما أو كليهما إلى مرحلة الأربعينيات والخمسينيات يواجهان عدة مصطلحات شاع استخدامها في وسائل الإعلام؛ مثل "سن اليأس"، الذي بات - تبعاً للدراسات الحديثة - غير قاصرٍ على المرأة بل طال الرجل أيضاً و"أزمة منتصف العمر" التي برع كتاب الدراما في تجسيدها، بحيث يخرج الزوج من دائرة زوجته، التي تصورها الدراما وقد فقدت حيويتها وشبابها، ليقيم علاقة مع أخرى يجدد من خلالها شبابه. ويلح الإعلام على إظهار أهمية عمليات التجميل، التي يجب أن تهرع إليها المرأة للاحتفاظ بوجه خال من التجاعيد وبجسد رشيق لعلها بهذا تحتفظ بزوجها، وفي الآونة الأخيرة أصبح متاحاً للرجل أيضاً الدخول في دائرة صناعة الجمال، وكأننا اصبحنا لا ندرك أن لكل عمر جمالَه الخاص، ورونقَه الشديدَ الخصوصية.
وفي معظم الأسر العربية فإن وصول الزوجين؛ أحدهما أو كليهما، إلى هذه المرحلة العمرية، يعني أيضاً تقدم عمر المؤسسة الزواجية، التي تكون قد شهدت رتابة ومللاً وفتوراً، بحكم طول العِشرة والانشغال والروتين، والأبناء الذين كبروا وأصبحت لهم حياتهم وصداقاتهم ومفردات عصرهم، مما يساهم في حلول ضيف ثقيل على عشّ الزوجية وهو "الجفاف العاطفي" الذي يتحول تدريجيا - ومع مرور السنوات - إلى جزء لا يتجزأ من حياة الزوجين اليومية.
وبالاضافة لكل ذلك فإننا نخضع ونتأثر بثقافة إعلامية تشكّل الكثير من قيمنا وأفكارنا ومعتقداتنا، ومنها ما رسخته الدراما عن أن الحب والرومانسية والغرام، مشاعرُ ليس لأي منها مكانٌ في المؤسسة الزوجية، التي يصورها الإعلام بمعاناة طرفيها من الروتينية والملل والمشاكل والخلافات ، والمسؤوليات التي تغتال المشاعر منذ السنوات الأولى، ودعمت هذا المفهومَ الإعلاميَّ عاداتٌ وتقاليد جعلت الأزواج والزوجات في معظم الأسر العربية غير قادرين على إظهار مشاعر الحب والود لبعضهم البعض، وكأن ذلك ضعفٌ في شخصية الرجل، وقلة حياء من المرأة، ولذلك فإن العديد من الأبناء ينشأون داخل أسر تعاني من غياب مظاهر التعبير عن الحب بين آبائهم وأمهاتهم، ولذا فإنه من المثير للدهشة ملاحظةُ أن المشاهد الرومانسية التي تجمع بين المتزوجين بصفة عامة، وبين المتقدمين في العمر بصفة خاصة، في المسلسلات التركية، وهي صاحبة النسبة الكبرى من المشاهدة على مستوى الوطن العربي ، والشديدة الحرص على تجسيد قصص الحب و المشاعر الرومانسية بين أبطال ممن تعدوا مراحل منتصف العمر، مما يعتبره المشاهد العربي كوميديا تدعو إلى السخرية أو التحسر على الجمود العاطفي الذي يعاني منه شباب المتزوجين .
ويبدو أننا مصرون أن نعلن للعالم أننا شعوبٌ لا نعتني بالجانب العاطفي في علاقتنا الإنسانية، ولدينا تصميم أن نأخذ من ديننا الاسلامي السمح المظاهر الخارجية فقط، وأن لا نستوعب إلا القشور من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنبي الذي بعثه الله رحمة للعالمين عندما سئل عن أحب الناس إليه، كانت إجابته أنها عائشة رضي الله عنها. وهو صلى الله عليه وسلم الزوج الشاب الذي احتلت زوجته السيدة خديجة سيدة نساء العالمين مكانة عظيمة في قلبه في حياتها وبعد مماتها، وهي الزوجة التي كانت قد تجاوزت منتصف العمر وكانت سيدة مجتمع وأعمال بالمفهوم العصري، واستطاعت أن تمارس أعمق معاني الحب بدفئها واحتوائها وتدعيمها لزوجها الشاب قبل وبعد النبوة. وفي سير الصحابة نجد قصصاً لعلاقات زوجية تغنّى الشعراء بقمة مشاعر الحب بين طرفيها، فديننا في الحقيقة هو دين الحب.
أننا بحاجة إلى إدراك حقيقة هامة أنه في كل مراحل الزواج يكون كلا الزوجين بحاجة إلى شحن الطاقة العاطفية بينهما، ولكن مع تقدمهما في العمر وتقدم عمر زواجهما، يكونان على حد سواء بحاجة شديدة إلى الاحتواء والتواصل والود، سواء على المستويين اللفظي وغير اللفظي، فالرجل والمرأة في تلك المرحلة لديهما استعدادٌ لتقـبُّل مشاعر الود والعطف والحنان والاحتواء والشعور بأن كليهما لايزال مرغوباً من الآخر، فكل إنسان يتطلع إلى أن يكون محبوباً من الآخرين – فما بالك بشريك الحياة – فلماذا لا يستثمر الأزواج والزوجات هذا الاستعداد لخلق علاقة زوجية يسودها الحب، من خلال النظر بعمق إلى هذه العلاقة السامية!! إن حب الزوجة في هذه المرحلة يحمي الزوج من الوقوع في أزمات منتصف العمر، التي طُرحت في الدراما حتى باتت راسخة في أذهاننا، وحب الزوج يحيط الزوجة بسياج يقيها من اتخاذ قرار - عن إرادة أو بغير إرادة منها - بالبعد عن دائرة الزوج إلى داوئر اهتمامات أخرى، خاصة مع هذا التطور الذي شهدته وسائل الاتصال، التي - تبعاً للدراسات الحديثة - أتاحت لكل من الطرفين أن يحيا داخل عوالم افتراضية إلكترونية، من خلال "الشات"، والمنتديات، والصداقات، البريء منها وغير البريء.
إن العلاقة الزوجية العاطفية بعد سنوات طويلة من العشرة الزوجية، تصبح في أشد الاحتياج إلى المشاعر الدافئة والهادئة، والتخطيط المشترك بين الزوجين لبناء جسرٍ قويّ يسيران عليه معاً في السنوات اللاحقة، والبعد عن أسلوب السخرية والتقليل من شأن احتياجات أحد الطرفين بحجة أنها لا تتناسب مع عمره، فالحب احتياجٌ أساسي في حياة الإنسان، لا يرتبط بعمر الزوجين، ولا بطول وقصر عمر زواجهما، ولكنه يرتبط بمدى تحمل كل طرف مسؤوليته عن زيادة رصيد المشاعر في قلب الآخر، ليحصدا معاً في مراحل متقدمة من العمر، اللحظاتِ الدافئةَ، عندما يتكئ الزوج على ذراع زوجته وقد أصابت الشيخوخة جسديهما ولكنها انهزمت أمام شباب مشاعرهما، فالحب طاقة إيجابية في حد ذاته، والتعبير عنه يولد الطاقات الكامنة في نفسي المحب والمحبوب.
فهل يمكن أن يبدأ الأزواج - شباباً وكباراً وشيوخاً - في إدراك أهمية التعبيرعن الحب وتنميته في إطار العلاقة الزوجية التي أراد الله عز وجل لها أن يسودها المودة والسكينة والرحمة ، لعلهم يساهمون في تغيير الصورة الذهنية القاتمة عن الزواج، تلك التي رسخها -في أذهان أجيال وراء أجيال- أزواجاً أعتزلوا الحب والغرام !!
عبير الكلمات
إلى عالَمٍ آخرَ غيرِ دُنيايَ رَحَلْتَ، فافْتقَدْتُ دِفْءَ أحضانِكَ، وسَكينةَ يَدَيَّ في راحَتَيْكَ.. أبي رحمةُ اللهِ عليك، فبِرَحيلِكَ عنّي ضاعَ الأمانُ وضلَّ الحنانُ طريقَه إلَيَّ، وعَزائي أنّه لم يَنقطِعْ دُعائي لك وشَوقي إليكَ....