نعرف جميعا العقيد معمر القذافي وأفعاله، لكن ماذا نعرف عن شخصيته؟ عن هذا السؤال يحاول الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا الإجابة في روايته "ليلة الرئيس الأخيرة" التي صدرت حديثا عن دار "جوليار" الباريسية، ويسرد فيها الساعات الأخيرة من حياة "طاغية" ليبيا قبل أن يقع في قبضة الثوار.
أحداث الرواية تقع في مدرسة مهجورة بمدينة سرت الليبية حيث كان القذافي مختبئا مع بعض رجاله ينتظر العون من ابنه المعتصم للانتقال إلى مكان آمن في جنوب البلاد.
في تلك الليلة المحمومة نراه لا يزال مقتنعا بإمكانية الإفلات من قدره المحتوم فيحاول تمرير الوقت عبر توزيعه بعض الأوامر والشتائم على المحيطين به، والتأمل في فصول حياته.
وفي هذا السياق، نتعرف -بلسانه- إلى طفولته التي عاشها في الفقر والذل، واختبر فيها اليتم والمصير المجهول اللذين شكلا الدافع لثورته على قبيلته ووضعه ككل، ثورة لم يلطفها سوى إعجابه بخاله الذي كان يقرأ في النجوم، وذلك الصوت داخله الذي بدأ يسمعه منذ تلك الفترة ولطالما أكد له دوره كـ"مرشد" لأبناء وطنه.
جنون العظمة
وما سيعزز مصداقية هذا الصوت داخله وبالتالي جنون العظمة الباكر لديه تمكنه من متابعة دراسته بخلاف جميع أفراد عائلته، وإنهاء هذه الدراسة في بريطانيا، ثم ترقيه داخل الجيش وتأثر بعض رفاقه في هذه المؤسسة بخطاباته النارية ضد الوضع القائم في ليبيا وضد الملك المسؤول في نظره عن هذا الوضع.
ومع نجاح الانقلاب الذي سيقوده إلى السلطة لن يلبث هذا الجنون أن يتحول إلى سادية وحشية يبررها في نظره "نجمه الساطع" ودوره كـ"مخلص منتظر". هكذا، سيفتتح عهده بالانتقام من الفتاة التي أحبها في صغره ورفض والدها تزويجها منه عبر قتل هذا الأخير واختطاف ابنته واغتصابها على مدى أسابيع.
سادية لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستطاول بسرعة من ساعدوه على الوصول إلى الحكم، ثم كل من سيتجرأ على معارضته أو ينتقد سلوكه أو حتى يثير ارتيابه.
لكن قيمة هذه الرواية لا تكمن في هذه التفاصيل المعروفة بقدر ما تكمن في اختيار خضرا لسردها صيغة المتكلم التي تسمح بالانزلاق تحت جلد القذافي والتعرف إلى ما كان يدور في خلده، وبالتالي بقياس -من أقرب مسافة- جنون العظمة ووحشية رجل لطخ يديه بدماء آلاف الأبرياء من دون أن يشعر بالندم أو يشك بسلوكه.
الرجل الأسطورة
فحتى اللحظة الأخيرة نراه يكرر لنفسه أنه فعل ما فعله لصالح شعبه الذي يبدو له ناكرا للجميل نظرا لانقلابه عليه، مما يجعله يقود تأملات في المستقبل "القاتم" لليبيا بعد رحيله، ويحمد نفسه بكلمات تعكس "ذهانه المرضي" كما في قوله "أنا معمر القذافي، الأسطورة متجسدة في رجل، إن كان عدد النجوم في سماء سرت قليلا هذا المساء والقمر أشبه بقصاصة ظفر فلكي أبقى كوكبة النجوم الوحيدة التي لها اعتبار".
وتكمن قيمة الرواية أيضا في عدم حصر خطابها في التأثير السلبي للقذافي على ليبيا، فمن حين إلى آخر لا يتردد في تناول إنجازات هذا الطاغية التي لا يمكن نكرانها، مثل توحيده بلدا كان ممزقا إلى قبائل، والتشييد العمراني الذي قاده، وتطويره حقوق المرأة إلى حد ما.
وفي السياق ذاته، يفضح الكاتب طبيعة العلاقات التي كانت تجمع القذافي ببعض زعماء منطقتنا والعالم الذين كانوا يفرشون السجاد الأحمر لاستقباله، فعلى لسان "المرشد" نقرأ "منشدو القومية العربية كانوا يعظمونني بصوت عالٍ، وزعماء العالم الثالث يأكلون في يدي، والرؤساء الأفارقة يشربون من نبع شفاهي، والثوار المبتدئون يقبلون جبيني لبلوغ النشوة".
وعبر وصفه الحرب في شوارع مدينة سرت في الجزء الأخير من الرواية يغمز خضرا من دون شك إلى الوضع الراهن لليبيا التي لم ينته فيها التقاتل أو عمليات القمع، وبالتالي إلى الإهمال الذي يعانيه هذا البلد من الدول العظمى التي ساهمت بقوة في تصفية طاغيته بعدما كرمته طويلا بدافع المصلحة أو الخوف مما كان قادرا على كشفه.
لكن تبقى أهمية الرواية في رسم صاحبها- عبر شخصية القذافي- "بورتريها" تنطبق ملامحه بدقة على جميع الطغاة، وفي كشفه المحركات الأكثر سرية لبربرية الإنسان.