أكثر المؤسسات غموضا وبُعدا عن الأضواء خضعت بداية هذا الأسبوع لاختبار الأضواء الكاشفة، على خلفية قرار إقالة الفريق توفيق من رئاسة ما بقي من مديرية الاستعلامات والأمن، وإنهاء الثنائية القطبية على رأس مؤسسة الجيش، التي احتاجت إلى قرابة عقد من الزمن، وإلى إجراءات تمهيدية، نُفذت على مراحل لتفكيك ما كان يوصف بالدولة داخل الدولة.
التوقف عند ما يوصف بصراع الأجنحة لن يفيد كثيراً، وهو الظاهرة السائدة في معظم أنظمة الحكم، كما لا يفيد التوقف عند ما يُنسب للفريق توفيق من سلطات خيالية، ومنها صناعة الرؤساء، وقد شهد ذهاب أربعة منهم، وشغل رأس الخامس لأكثر من 15 سنة، وكان وراء تعطيل مسار تعديل الدستور، ودخل في صراع مكشوف مع الرئيس ومع قيادة أركان الجيش، وقادة النواحي العسكرية.
تربّع الفريق على عرش الأمن أكثر من ربع قرن، يُشهَد له بقدرة خارقة على التكيّف مع التغييرات الكثيرة في السياسة والرجال، في الداخل والخارج، وله حصيلة من الإنجازات الأمنية لا ينكرها إلا مكابر، وإخفاقات أمنية كثيرة كان آخرُها واقعة تيڤنتورين، التي اُتخذت ذريعة لتقليم أظافر المؤسسة، وسرّعت من وتيرة تفكيكها، وبداية إعادة تشكيلها تحت سلطة نائب وزير الدفاع وقائد الأركان، مع غلق بعض شبكاتها في الفضاء المدني بالوزارات والإدارات الكبرى.
ما هو أهمّ من هذه القراءات، التي أصبحت من اختصاص المؤرّخين، هو استشراف ما بعد رحيل توفيق، ليس فقط على مستوى مستقبل المؤسسة وإعادة صياغة خياراتها الأمنية، وإعادة انتشارها، بل من جهة تداعيات رحيل الرجل الغامض على تحرير أيادي الرئيس.
توقيف الفريق توفيق، بعد ترحيل حاشيته المقرّبة على مراحل، يكون قد أغلق باب الخوف من انقلاب القصر، الذي ظل يؤرّق محيط الرئيس منذ بداية العهدة الرابعة، كما وضع مؤسسة الجيش بالكامل في موقع الولاء التام للقائد العام، وأبعد شبح انخراط محتمل لملاحق المؤسّسة في تفجير دخول اجتماعي، يكون فرصة لتفجير الإستقرار، وتجديد دعوات تقليص العهدة الرابعة.
الأهمّ من ذلك، أن التوافق الذي سمح بترحيل الفريق توفيق، سوف يسهّل التوافق على الرجل الذي سوف يبدأ الإعداد لتأهيله لخلافة الرئيس عند نهاية العهدة، أو في حال حصول شغور مفاجئ في الموقع الرئاسي، وربّما تكون الأضواء قد بدأت تُسلّط بجرعات ميسّرة على شخص السيد أويحيى، الذي بدأت خرجاته الإعلامية تتكثف تحت قبعة الأمين العام للرئاسة وقبعة رئاسة حزب التجمع، وقد يكون أكثر المستفيدين من إبعاد الفريق توفيق، لأن القاعدة في صناعة رؤساء هذا البلد: أن يكون المرشح مقطوع الجناحين، لا يدين سوى للجهة التي تبنته، وآزرته، وعبّدت له طريق قصر المرادية.
وما هو أقرب إلى اليقين، أن إبعاد الفريق مدين، وتحجيم مؤسسة الاستعلامات والأمن، قد ترك مهمّة صناعة الرئيس القادم بيد رجلين لا أكثر: الرئيس القائد العام للقوات المسلحة، والفريق ڤايد صالح، الذي يكون قد استكمل على أحسن وجه مهمّة ضبط الإيقاع داخل المؤسسة برحيل آخر ضابطين ساميين ممن شهدا وصول الرئيس إلى المرادية: توفيق وبوسطيلة.
بقلم: حبيب راشدين