كان معمر القذافي صاحب مواقف وأطروحات إشكالية لا يتسع المقام لذكرها، ومن تلك المواقف أنه طالب بإدارة جماعية -طبعا هو يقصد أن يكون على رأسها- لتنظيم الحج، وأن يسحب الملف من السعودية.
ولأن الدنيا مليئة بالعجائب، فقد عقدت في سرت في 2010 قمة عربية أشرف على تنظيم إقامة الرؤساء والملوك وسائر مرافقيهم في الفنادق شركة تركية استأجرها نظام العقيد..
وللقذافي مع الحج حكاية أخرى، حيث أنه أرسل حجاج بلاده إلى فلسطين المحتلة إبان الحظر الجوي على ليبيا، نوعا من مناكفة السعودية، ونكاية في الطهارة!!
فكيف سيشرف على تنظيم وتفويج وإقامة ورعاية أداء منسك لحوالي 2 مليون حاج من لم يستطع الإشراف على عقد قمة زعماء في بلده؟!
مر موسم الحج في هذا الموسم 1436هـ/2015م بما هو مؤلم ومحزن، فمن حادثة سقوط الرافعة في المسجد الحرام إلى التدافع في مشعر منى، ولكن الحزن يزداد ويتحول إلى غضب مشروع حينما نرى بعض الأطراف تريد تسييس الحدث واستغلاله بطريقة استفزازية بالدعوة إلى إدارة الحج، وتنظيم شؤون الحجاج من جهة أو جهات غير سعودية.
وتطاول هؤلاء وأسرفوا في المزايدة الرخيصة الممزوجة بفجور كبير في الخصومة.
ومنذ أن أمر الله -سبحانه وتعالى- نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بأن يؤذِّن في الناس بالحج فأتوا إلى البيت العتيق رجالا وعلى كل ضامر ومن كل فج عميق، وأهل تلك البلاد المقدسة يتولون هذا الأمر، وكل من حاول انتزاعه منهم لأي سبب باء بالخسران المبين، وظلوا يشرفون على الوافدين إلى بيت الله الحرام سواء في فترة ما قبل رسالة الإسلام، وما شابها من انحراف عن الحنيفية التي جاء بها إبراهيم، أو ما بعدها.
وتغيرت النظم السياسية من الخلافة الراشدة إلى الحكم الأموي والعباسي والأيوبي والعثماني وصولا إلى الدولة السعودية المعاصرة، التي ورثت هذا الشأن، ولم يعهد عنها تقصير متعمد، وحرصت على إصلاح أي خطأ واستخلاص العبر بعد كل حادث مأساوي. وإجمالا فإن الأحداث المؤلمة تظل قليلة نسبيا.
ومما يغيظ المرء أن عاصمة عربية (كانت) سويسرا العرب تمتلئ شوارعها اليوم بالنفايات تخرج منها أصوات نشاز بدوافع سياسية تطالب بسحب ملف تنظيم وإدارة الحج من السعودية، ورئيس وزراء سابق ملأ بلاد الرافدين بالفوضى والقتل وأمعن في سياسات وسلوك طائفي مقيت ينادي بمثل ذلك...هزلت والله!
وبعض أصحاب النوايا التي يعلم الله تعالى بها يعقدون مقارنات لا تصح موضوعيا بين أماكن أخرى يجتمع فيها ملايين الناس ولا تحدث أحداث مأساوية، فيتحدثون عن مطارات في دولة كذا وأسواق في دولة أخرى يرتادها في يوم عدد مقارب لعدد الحجاج..
وهذه مقارنة ظالمة تماما؛ فالبلاد المذكورة الدخول إليها يتم بتأشيرات وفق شروط صارمة جدا، والظرف مختلف عن التعامل مع كل جنسيات العالم بثقافاتهم ولغاتهم وهم يؤدون نفس النسك في بقعة مساحتها بضعة كيلومترات مربعة..
ووصل الحال بهؤلاء إلى الدعوة للاستعانة بشركات أجنبية لتنظيم الحج، وينسى هؤلاء أن هناك شرط الإسلام لمن يدخل تلك المناطق، وأنه لو جئت بكل شركات العالم التي تتحدثون عنها يابانية أو أوروبية أو غيرها، فلن تتفوق على من هذا عمله منذ آلاف السنين!
ولا بأس من تقديم اقتراحات معينة للحكومة السعودية، ويؤكد المنصفون أنها تستمع لها، وهناك من كتبوا دراسات علمية وأبحاثا حول تنظيم الحج لم تتردد السعودية في نشرها والنقاش حولها، أما التسييس والمزايدة وإطالة اللسان فلا علاقة لها بالحرص على أرواح الحجاج وتنظيم أداء المناسك كما يدعي أصحابها.
لاحظت مرة كثرة عدد المتسولين في تلك البلاد المقدسة، فسألت مواطنا: أليس لديكم شرطة لمكافحة التسول؟ فأجابني: بلى، ويقومون بحملات كل فترة، ولكن أخي هذه بلاد عمرة وحج، وهناك من يدخل بهذه الصفة للتسول فلا يمكن القضاء على الظاهرة..
فقولوا لي بالله عليكم أي دولة من الدول التي تفاخرون بنظامها تسمح بدخول أكثر من مليون ونصف المليون إنسان إلى أراضيها بما يحملون من عادات ولغات وتتمكن من إسكانهم في منطقة واحدة لبضعة أيام؟
السعودية مسؤولة عن تنظيم الحج وأداء المناسك وليست مسؤولة عن أخلاق وعقول الحجاج، وبعض الحجاج من بعض الجنسيات -هداهم الله- لا يراعون حرمة المكان وروح المناسك -لا شكلها- ولا يتلطّفون مع إخوانهم.
ولو شئت قارن بين الحجيج من حملة الجنسية السعودية كون دولتهم متهمة من بعض الأصوات وبين غيرهم، ستجد هؤلاء على خير ما يرام مقارنة ببقية الحجاج من بعض الدول.
كما أن هناك ثقافة اجتماعية تسندها أحيانا قوانين في العديد من الدول تعطي أولوية أداء فريضة الحج لكبار السن والضعفاء، فما ذنب الدولة السعودية ومؤسساتها بهذه الثقافة؟
وإن كان هناك أفكار ومقترحات فهناك قنوات رسمية لإيصالها وسماع الرد عليها دون اللجوء إلى أسلوب التسييس والتوتير، وبث الإشاعات الكاذبة عبر الإعلام.
وأخيرا وليس آخرا، فإن من له تاريخ في افتعال الفوضى في الحج والتسبب بقتل وجرح آلاف الحجاج لا يحق له الآن، وقد أخذته العزة بالإثم، التذرع بحادث أو حادثين للدعوة إلى سحب ملف تنظيم الحج ممن كرّمهم الله وشرفهم به...
ولنا أن نتخيل كيف لو أن بعض أصحاب الأصوات الناعقة يتولون الأمر، فلربما شاهدنا التطبير في صحن الكعبة، أو ربما سمعنا شتم أم المؤمنين عائشة أو لعن الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عن الثلاثة- وكل ما يسيء إلى عموم الأمة.
وإن كانوا يزاودون على السعودية فليتذكروا أنهم لم يحسنوا تنظيم تشييع جنازة زعيمهم الذي انتزع الكفن عنه وسقطت جثته..
ومن لم يتعلم من أبرهة الأشرم، ومن القرامطة، ومن القذافي، فلربما يحتاج أن يتعلم من (كيسه)... نسأل الله تعالى ألا تتكرر مأساة الحجاج في أي موقع أو مشعر، وأن تخرس كل الألسنة المحرضة والمزايدة على من لم يبدر منهم أي تقصير أو إهمال وكانوا وما زالوا خدما لبيت الله الحرام والآتين له من كل أرجاء الأرض.
بقلم: سري سمّور