ذهبت مع الشيخ محمد الحسن بن الددو إلى زيارة المرابط محنض باب بن إمين، وكان بصحبة الشيخ ضيوف من المـملكة العربية السعودية أبرزهم شيخ قبيلة قريش بمكة محمد بن عبد الله القرشي المخزومي، وشيخ أشراف مكة عساف الحارثي الحسني، وسلطان بن محمد القرشي المخزومي، ومحمد الكريدميالأموي، والقارئ محمد سلمان الدهاس الهوازني إمام وخطيب جامع العريفي بمكة، وبصحبته كذلك الأستاذ المدرس بمحظرة أم القرى عبد الرحمن بن البحر بن عدود المباركي، والعضو بمجلس الشيوخ عمر الفتح المسومي، والأخ عبد الرحمن بن الحافظ الأنصاري مدير مكتب الشيخ محمد الحسن في السعودية، وبقية الوفد الفضلاء، وقد ذهب وفد الشيخ في أربع سيارات تتقدمها سيارته .
وفي الطريق طلب مني الشيخ تحديث ضيوفه عن جانب من سيرة المرابط وأحواله، فذكرت لهم نبذة عن نشأته ودراسته، وأعانني الشيخ فذكر انتسابه من جهة الأبوين إلى أسرتي علم و صلاح، ثم ألقى إليَّ زمام الحديث طالبا مني متابعته، فذكرت نجاح المرابط في تكوين مجموعة من طلبة العلم وطالباته تكوينا دينيا وخلقيا ومعرفيا نادر الشكل عزيز النظير وأشار الشيخ إلى أسلوبه الخاص في التعليم وتوظيف التعليم في تحقيق الأهداف التربوية، وذكر رسالة الأساسيات كمثال، وذكرنا لهم جانبا من صلاحه واستشفاء الناس بدعائه وزيارته، وأفاض الشيخ إفاضات طيبة في ذكر تنظيمه لوقته وانقطاعه في مقتبل شبابه للعبادة، وحرصه على العلم والمطالعة وزهده في المال والجاه، وقبل ذلك عندما كنا في ساحة الفندق قبل انطلاقنا أسمعني الشيخ في مسجلة سيارته قطعة من قصائده الدينية، وذكر لي شدة تعلقه بهذه القصائد وإدمانه على استماعها، وكان الضيوف يستمعون إلى الحديث ويتفاعلون مع مواضع منه بالتعليق أو التعجب أوالاستفسار!!
وقد ذكر لنا الشيخ أنه زار الأستاذ محمد قطب - رحمه الله - بعد إصابته بوعكة صحية، فقال له الأستاذ: بلغني أن شيخا في موريتانيا يدعو لي، فقال له الشيخ محمدالحسن: ذلك الشيخ محنض بابه، فتأثر الأستاذ وقال: من أنا حتى يدعو لي الشيخ محنض بابه؟! قال الشيخ: إن المرابط يحب محمد قطب، قلت له: كما يحب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ أبا الحسن الندوي، قالالشيخ محمد الحسن: الشيخ عبد الفتاح شيخي، والشيخ أبو الحسن الندوي لقيته وتشرفت بخدمته مدة ثلاثة أيام، قلت له: بماذا كنت تخدمه؟ قال: كنت أسخن له الماء للطهارة، وأتولى وضع طاقيته عن رأسه عندما يجلس، ومن حسن الحظ أنه كان من الشيوخ الذين يقبلون الخدمة، وكانت له غرفة فيها فرش بسيطة مغلفة بقماش يشبه القماش الذي تعمل منه ثياب المرابط ، ولم يترك أبو الحسن عند موته إلا مصحفه وسبحته وأشياء بسيطة لم يترك مالا قلت له: كيف لم يترك مالا وقد كان يتولى وظائف ومسئوليات كثيرة جدا؟ فقال: كان يأتيه المال الكثير فيفرقه .
ولما وصلنا إلى مشارف مدينة الجديدة "تكند" عرجنا على موضع للراحة والاستجمام بضواحيها، وصلينا فيه الظهر والعصر جمعا وقصرا، وتغدينا وقمنا بجولة تفرج على النعام والغزلان والمهى الموجودة في محمية تابعة له، ثم واصلنا السير عصرا حتى قطعنا ما بقي من الطريق، ووصلنا إلى قرية الدوشلية قبل المغرب بقليل، فوجدنا الإخوة قد بسطوا فُرُشا أعدوها لجلوس الضيوف، فأخذ الضيوف مجالسهم عليها، وبعد وقت قليل من وصولهم جاءهم المرابط فسأل عن الشيخ محمد الحسن؟ فوقف الشيخ وسلم عليه وعرفه بالقادمين، فقال له: المرابط تصلون أولا؟ فقال الشيخ: لقد قرروا أن يجمعوا المغرب جمع تأخير مع العشاء وأنت تعلم أن ابن قدامة قال: إن الجمعين أفضلهما أرفقهما، فتبسم المرابط وقال للشيخ: ذلك هو الصواب ثم جلس، فتحلقوا حوله، وقدم له الشيخ محمد الحسن شيخ قريش المخزومي، وشيخ الأشراف الحسني، والأموي، والهوازني، فقال للشيخ المخزومي - وهو مقبل عليه - أنا أحب خالد بن الوليد، ومعجب به أيما إعجاب! ومن أحسن مواقفه عندي موقفه حين ورد كتاب عزله عند وفاة أبي بكر وتولي عمر فانقلب جنديا يقاتل تحت قيادة أبي عبيدة دون أن ينقص حماسه وهو جندي عن حماسه عندما كان قائدا! وقال للشيخ الحسني وهو مقبل عليه كذلك: أنا أحب الأشرافَ وأنشده بيتي الفرزدق :
من مـعشر حبهمْ دين وبغضهـــمُ
فسقٌ وقـربـهـمُ مـنـجى ومـعـتـصـمُ
إن عُدَّ أهـل التقى كانوا أئمتهـم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل همُ
وأشار إلى طرف من فضائل أهل البيت، وخبر محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية، وما جرى لأبي جعفر المنصور معه.
وقال للأموي: أنا أحب معاوية بن أبي سفيان، وقال لأخي هوازن: أنا أحب حليمة السعدية، وأوقن أنها أسلمت، وأن ما رآه السبكي من نفي إسلامها غيرصحيح، وكنت أتمنى - ولا اعتراض على الله - أن تختارابنتها الشيماء الإقامة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما خيرها، فقال الشيخ محمد الحسن: أنتفعل ما فعله زيد بن حارثة.
وفي أثناء هذه المطايبات الجارية في جو من الانبساط والسكينة، قال المرابط لشيخ قريش وللأموي: إذا احتل الأشراف صدارة الحب فما كان ذلك ليغض من قيمة بني مخزوم وبني أمية، فأجابه شيخ قريش بما يدل على الرضا والتسليم، وذكروا له محبتهم للشيخ محمد الحسن فقال المرابط: إن محبيه كثيرون، ولم يزده حسد حسَّاده إلا فضلا.
ولما ذكر المرابط حبه لمعاوية، قال له شيخ الأشراف عساف - وهو كما ذكر لي الإخوة معروف بدعابته -: كيف تحبه؟ وقد قاتل جدي، وكانت هذه مناسبةً للتنبيه على طرف من الأدب والإنصاف اللائقين بالمسلم في تعامله مع الصحابة الكرام، خاصة في هذا الزمان الذي اجترأ فيه على الخوض في هذا الموضوع الدقيق من قل علم، ورق دينه، ونزل مستوى فهمه عن إدراك فضل الصحابة، وسمو أقدارهم، وبعد أنظارهم ومباينة أحوالهم لأحوال من بعدهم، فقال المرابط: ما تفصيل إجماله أن هذا الشريف لو كان حاضرا لتلك الأحداث لعرف أن وجهة نظر الزبير وطلحة وعائشة ومعاوية لها وجاهتها، وإن كان رأي علي أصوبَ، فقد قتل عثمان وهو الخليفة الراشد ظلما وعدوانا فكان واجب الوقت القصاص من قاتليه قبل النظر في أي أمر آخر، فإذ افرغ المسلمون من أمرهم بايعوا من يرتضونه خليفة لهم، وهذا رأي له وجاهته، لو لم يكن وراء البغاة القادمين إلى المدينة قبائل كبيرة هي مادة جند الإسلام، وهذه القبائل وإن لم تشترك كلها في قتل عثمان، لكنها ليست متساوية في اعتبار قتله ظلما فلو أراد المسلمون القصاص لعثمان بعد قتله مباشرة لوقفت تلك القبائل دون أبنائها القتلة فتعذر الوصول إليهم قبل سفك دماء كثيرة وقتل جموع لا يستحق أكثرهم القتل، فكان الأصوب إرجاء القصاص حتى يستقر حال المسلمين وتجتمع كلمتهم، ولم يكن الصحابة يتحركون في الأمور الكبيرة لحظوظ النفوس التي يتحرك لها غيرهم، لكن الظروف التي واجهوها ذات أبعاد معقدة، ولها وجوه متعددة وزوايا مختلفة، والقواعد المتناولة لها متعددة، وطريق الترجيح بينها غامض مشتبه، فلا بُدَّ أن تختلف فيها مسالك الأنظار وتتباين نتائج الأفكار، مع بلوغ الجميع غاية النصح للإسلام، وحرصهم على سلامة وجوده وإقامة حدوده، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين مع استحقاقهم للقتل لعدم استواء عشائرهم في إدراك عداوتهم للإسلام، فكان هذا النظر المصلحي أصلا من أصول كثيرة تقتضي أصوبيَّة رأي علي ومن معه، وكان النص القاضي بإثبات الأجر الواحد للمخطئ في اجتهاده أصلا في رفع التثريب عن بقية الصحابة المطالبين بتقديم القصاص من قتلة عثمان مع اعتصامهم بالنص على وجوب القصاص وظهورعذرهم في عدم الإحاطة بأبعاد تلك القضية مع ما جرى من تخطيط ماكر وتدبير خفي مضاد لجهودهم وجهود مخالفيهم في الإصلاح وتدارك الأمر قبل تفاقمه.
ولا شك أن النصوص المتضمنة لتزكية الصحابة وتفضيل جيلهم على سائر الأجيال، وشمول الرضوان الإلهي لهم، أقوى زاجر للمسلم عن الخوض فيما شجر بينهم وأعظم مرشد له إلى التماس أحسن المخارج لهم.
وقد سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية بن أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل؟ فقال ابن المبارك: إن الغبار الذي ارتفع إلى أنف معاوية في خروجه مع رسول الله إلى وادي حنين غازيا لهوازن أفضل من عمر بن عبد العزيز؟ وإن قال النووي إن ابن المبارك بالغ في هذا القول.
وقد أقبل المرابط على الأستاذ عبد الرحمن بن البحر وقال له: أنا أحبك، وأود لو فعلت مع ألفية العراقي في السيرة مثل ما فعل الشيخ مع ألفيته في الحديث، فقال له الأستاذ: الشيخ أمامك. فقال المرابط: الشيخُ لاوقتَ معه، فابدأ أنت، وهو يصححُ لك.
ثم أقبل عليه بعد ذلك قائلا له: إن وعدتني بإصلاح ألفية السيرة قدَّمْتُ لكَ فائدةً.
فقال له: أَعِـدُكَ بإصلاحِها، فقال المرابط: ما ورد من إجابة دعاء من قدم على دعائه الدعاء لأخيه المومن أو قدم على دعائه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس معناه أن الداعي الذي يفعل هذين الأمرين لمجرد التسبب بهما لإجابة دعائه يجاب دعاؤه بذلك بل معناه أن من امتثل أمر الله تعالى بالصلاة والسلام على رسوله تعظيما له واعترافا بفضله ثم دعا لنفسه بعد أن كان متناسيا لها يجاب دعاؤه، وكذلك من عرف أن مِنْ أحب الناس إلى الله أنفعَهُم لعباده المومنين فدعَا لبعض إخوانه مُوافَقَةً لمحبَّة الله تعالى ثم دعا لنفسه بعد أن كان متناسيا لها يجاب دعاؤه. كان هذا أهم ما جرى في ذلك المجلس.
وقد ختم المرابط مجلسه معهم بدعاء جامع، وودعهم في جو من البشر والطمأنينة والصفاء فانصرفوا راضين منبسطين، وكانت العبارات الدالة على الانطباعات الحسنة، ودخول السرور إلى أغوار القلوب تتردد هنا وهناك.
وقد عرض الشيخان القرشي والهاشمي - ونحن في طريق العودة - عرضا طَلَباَ مني إبلاغه إلى المرابط، وهوعبارة عن خمس حجات أولاها: للمرابط، والأربع البواقي: لأربعة من تلامذته، مع تولي جميع التكاليف والمصاريف ابتداء من تذاكر الذهاب والإياب، وانتهاء بتوفير الأجواء المريحة والمساكن الهادئة، والوسائل المساعدة، وقد أبلغتُ المرابط عرضهما، فردَّ بأن بدنه لا يحتمل السفر في الطائرة .
محمد نافع (محب السبتيّ) بن ابين بن ببانه