من أجمل الرسائل التي تلقيتها، عقب نشر سلسلة المقالات التي تناقش مفهوم (لا إكراه في الدين)، وكيفية تطبيقه في حياتنا، رسالة تلقيتها من المهندس مصطفى محمود، عمره 26 عاما، من قرية شطا هيكل مركز شربين في محافظة الدقهلية، تخرج من هندسة البترول والتعدين قسم جيولوجيا، ومثل ملايين الشباب في مصر، اضطر إلى العمل في مجال لا علاقة له بدراسته، حيث يعمل، الآن، مهندس صيانة ماكينات في مصنع ملابس جاهزة. وقد توقفت باهتمام وتقدير أمام رسالته، التي أشكره لأنه سمح لي بنشرها، وأتوقع أنك ستجدها مثيرة للتأمل في حالة شاب مصري، قرّر أن يبحث عن طريقه في الحياة بنفسه، من دون أن يسير في طرق رسمها الآخرون له، مهما ادّعوا أنهم أقرب منه إلى الله ودينه.
يقول مصطفى في رسالته:
"ظللت، سنوات طويلة، أدافع بكل ما أوتيت من قوة، عن مشاهير المشايخ الذين كنت أعتبرهم حراس العقيدة، والمؤتمنين على مفاتيح الجنة، كنت بالأخص من مريدي محمد حسان، وتلاميذ مدرسته، لم أكن أتحمل أن أسمع جملة فيها اسم (محمد حسان) من غير أن يسبق اسمه لقب (فضيلة الشيخ)، وكيف لا وأنا آخذ كل حلالي وحرامي منه، ومن إخوته وتلامذتهم. في نفس الوقت، كنت متابعا نهما لعمرو خالد، منذ كان على قناة (اقرأ)، أدافع عنه بكل ما أوتيت من قوة، إلا حين يذكر الشيوخ أخطاءه، لأن ولائي الفكري الأول والأخير لهم، ومع أني لم أكن ملتحياً، لكني كنت أنكر عليه حلق لحيته وإطلاق شاربه، والجلوس أمام جمهور من ذوات الشعر السايب.
في شهر يوليو 2012، نشر أحد أصدقائي المقربين كلاماً على "فيسبوك" يجرّم ختان الإناث، وإذا بي أستشيط غضباً، وأبحث عن فتاوى للشيوخ السابق ذكرهم، لكي أفحمه بها، وأفهمه أن هذه القضية من صميم الدين وجوهره، بل ومن المعلوم من الدين بالضرورة!، لماذا كنت أفعل هذا؟ لماذا كنت غاضباً إلى هذه الدرجة، من أجل موضوع كهذا؟ لم أكن أعلم وقتها. تطرق حديثي، يومها، مع صديقي إلى منهج هؤلاء الشيوخ. قال لي: "عمرك شفت حد فيهم يتكلم عن العدالة الاجتماعية، أو يقول إن حقوقنا مهضومة، ولازم يبقى عندنا كرامة، دول آخرهم يطلعوا في القنوات، يفضلوا يستقبلوا تليفونات بالساعات، وكل اللي يقولوه: حلال حرام حلال حرام حرام حرام، وبعد كده، يلمّوا معونات للبلد، لغاية آخر البرنامج". وقع كلامه عليّ كالصاعقة، كيف يتحدث عن هؤلاء الأنقياء بهذا الشكل البشع، هل خرج من الدين؟ أتحدث عنه مع صديق ملتزم فيقول لي "دعك منه، إنه شيعي، وسيفتنك ويفتك بك، احذفه من "فيسبوك"، وحذر الناس منه، ولا تتحدث إليه مرة أخرى".
وبالفعل، قمت بحذف صديقي والتحذير منه ومن كوارث الآراء، التي ينشرها لبعض الأسماء، ومن أبرزهم الدكتور عدنان إبراهيم، لماذا فعلت ذلك؟ لماذا لم أحاول أن أبحث لأرد عليه الحجة بالحجة. لا أعلم، لأني وقتها لم أسأل نفسي، أصلاً، تلك الأسئلة. استمر ذلك، حتى وجدت بعد أشهر مقطع فيديو، مدته أقل من خمس دقائق، نشره باسم يوسف على حسابه الشخصي في موقع (تويتر)، كنت متابعاً جيداً لباسم يوسف، منذ كان يصنع الفيديوهات الساخرة في غرفة غسيل الملابس في بيته، كتب باسم معلقا على الفيديو بعبارة (قديم لكن في الصميم)، فوجئت بأن المقطع لـ د. عدنان إبراهيم الذي قاطعت صديقي بسبب أفكاره، https://youtu.be/6p11vpw2xB4
والحقيقة أنني، هذه المرة، صدقت الدكتور عدنان، وهو يتكلم. لم أستطع أن أراه مصطنعاً، أو كاذباً أو منافقاً. على العكس تماماً، كان هذا الفيديو هو شرارة البداية لعلاقة جديدة بما يقوله الدكتور عدنان، استمعت إليه ثم استمعت واستمعت، ثم استمعت إلى كل منتقديه ومعارضيه، وهم كثر، فوجدت كما من الاتهامات يكفي لهدم جبال. هذه المرة، قرّرت أن لا أصدق الاتهامات، بل أن أبحث وأنقب وأعرف سياق الكلام الذي يقتطعونه من أحاديثه، لأكتشف أن كل ما يوجهونه له من اتهامات ليس إلا مجرد افتراءات. وشعرت أن منهج الدكتور عدنان بالبلدي "شقلب طريقة تفكيري في الحياة"، وبدأت بمداومة الاستماع إليه تنمو لديّ العقلية النقدية، وبدأت أشعر بقيمة تعبير (مسلم عاقل)، وأتأمل في معنى أن الله سيحاسبنا على ما وقر في قلوبنا وعقولنا، وليس على سيل الفتاوى التي يمطرها علينا الشيوخ، وبدأت أرفض منطق "هم اللي هيشيلوا وزرنا ما لناش دعوى، الدين بالنقل مش بالعقل وهما أدرى بالنقل منا"، وغير ذلك من العبارات التي أودت بنا إلى قاع الهاوية.
حين بدأت أحدّث من حولي عن أفكار الدكتور عدنان، اصطدمت بعقليات كثيرة، تعاملت معي بعنف، أصبحتُ لفترة منبوذاً، في مكان عملي، من معظم من حولي من المتدينين وغير المتدينين أيضاً، وأدخلني النقاش مع الآخرين في مناطق عجيبة، حيث عرفت أنه، وفي القرن الـ 21، هناك من لم يزل مقتنعاً بأن الأرض هي مركز المجموعة الشمسية، بل ومركز الكون والشمس هي التي تدور حولها، وإلا كيف للأرض أن تكون هي التي تدور حول الشمس، ونحن لا نشعر بهذا الدوران ـ ناهيك عن عدم محاولتي طرح فكرة دوران الأرض حول محورها من الأساس ـ وكل هذا ومن يحدثني يسوق أدلة على كلامه، من تفاسير القرآن والسنة. أسوق لك هذا كمجرد مثال على المناقشات العبثية التي وجدت نفسي أخوضها. مع الوقت، وجدت نفسي، وقد تغيرت. لم أعد أحتد في النقاشات مع أحد، مهما كان خلافي معه، اعتذرت لصديقي الذي قاطعته، وبدأت أتجنب الحديث مع زملائي في العمل في المسائل الخلافية، ولم أعد في حاجة لأن أرد على هجوم خصمي في النقاش بقوة، لأثبت له صحة كلامي، أصبحت أكثر قدرة على التماس العذر والتفكير في مواقف الآخرين.
كنت سعيداً، لأنني شخصياً أدركت أن جوهر الدين بعيد كل البعد عمّا أضعت فيه وقتاً طويلاً في السابق، بعيد عن سيل الحديث في الدين الذي طفح على الشاشات، مصحوباً بالبكاء حيناً وبالحزق والأصوات العالية، أحيانا أخرى، أدركت أن جوهر الدين يمكن إدراكه في البحث عن العدل، في كلمة حق تكتب في عصر جائر، في موقف إنساني نبيل، يظهر عاطفة المحبة والتسامح والرحمة، في محاضرة تتحدث عن الأدب الروسي، أو فيزياء الكم والنظرية النسبية أو ثابت بلانك أو سلسلة فيديوهات، تتحدث عن نظرية التطور ومبادئ الفلسفة.
جوهر الدين يمكن إدراكه عند فهم قوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ"، جنودهما!، نعم، جنودهما سيحملون الوزر، وإنْ لم يكن لهم من أمرهم في ظاهره شيئاً، فهذا دين يُحاسَب فيه كل امرئ على ما قدمت يداه، دين يعلمنا أن لنا كياناتنا المستقلة. خلقنا الله فرادى، ليكون كلٌّ منا خليفةً له في أرضه، وسيبعثنا ويحاسبنا فرادى كما خلقنا. ولذلك، كان هؤلاء الجنود خاطئين، حينما لم يكونوا على قدر ما خُلقوا لأجله، فعسى ألا نكون نحن، أيضاً، كذلك بإذن الله. جوهر الدين يمكن إدراكه في (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)، في البحث عن العلم في كتب العلوم، لا في كتب التفسير والفقه. في ألّا نصنف الناس وفق دين أو مذهب، ونكفّر هذا وذاك، ونخشى الاستماع لمن لا يتوافق مذهبه معنا، خشيةَ زعزعة الإيمان، فمن يتفكر ويعمل عقله كما أمره القرآن لن ينزلق في هاوية الكفر، بمجرد القراءة، أو الاستماع لأشخاصٍ لهم دينهم ولنا ديننا، فلا نريد أن نكون كمن يعبد الله على حرفٍ، فإن أصابته فتنة انقلب على وجهه.
زاد احترامي للدكتور عدنان إبراهيم، حين وجدته، خلال مناقشته فكرة ما، يأتي بأقوى الأدلة التي يسوقها مؤيدو أو رافضو الفكرة، ويناقشهم فيها تحت ضوء اجتهاده، بينما الكثيرون يتصيّدون الأدلة الضعيفة الواهية، كي يبدو رأيهم أمامها عظيماً قاطعاً. أصبحت على يقين أن الحق ليس حكراً على أحد، بل كل منا يمتلك جزءاً منه. وأن عليّ البحث عنه أينما وجد. لم أعد أخشى القراءة لأشخاصٍ، مثل ريتشارد دوكينز وفريدريك نيتشه وديفيد هيوم وكارل ماركس وكمال الحيدري، وغيرهم، لأن مبدئي ثابت، وهو البحث عن الحق، أينما وُجد.
"الإسلام ميراث، الإيمان تجربة، كلنا ورثنا إسلامنا، على ما وجدنا عليه آباءنا وأمهاتنا، وجدناهم مسلمين وسنة، صرنا سنة، وحنابلة فصرنا حنابلة، وجدناهم مسلمين وشيعة، صرنا شيعة، زيدية صرنا زيدية، ميراث. ولذلك أنت من حيث أنت ومن حيث كونك مسلمًا سنيًا شافعيًا مالكيًا حنبليا، ليس لك فضل على أخيك المسلم الزيدي أو الشيعي، هو المسكين ورث كما ورثت بالضبط، لا فضل لك عليه، ولا فضل له عليك. التفاضل في قضايا الإيمان والأخلاق بعد ذلك، أنسنة الإنسان مع الإيمان، وليس مع الإسلام، الإسلام وحده بلا إيمان هو ميراث المجتمع. أما الإيمان بطبيعته الرئيسية فذو طابع فردي، الإيمان لا يكون موروثًا. الإيمان تجربة ذاتية، إذا لم تخضه لن تجده." كان هذا بعض ما قاله الدكتور عدنان إبراهيم في خطبة (ثلاثة متدينين)، والحقيقة أن مثل هذا النوع من الخطاب الديني يجعلك تشعر أنك تتبع ديناً متسامحاً عقلانياً أخلاقياً إنسانياً رحيماً. صدقني، أحياناً، أثناء استماعي للدكتور عدنان، كنت أوقف الفيديو، وأضحك على نفسي مندهشا، كيف لم أدرك هذا من قبل، كانت الآيات أمامي واضحة وصريحة، تصب في اتجاه هذا المعنى، فلماذا كنا نذهب، دائماً، إلى ذلك المعنى البعيد تماما عن سياق الآيات، لمجرد فقط أننا لُقنّاه تلقينا، وحُرّم علينا باب التفكير والاجتهاد فيه، في نفس تلك اللحظة، ستسمع صوت الأصنام، وهي تُحطّم بداخلك. وأول هذه الأصنام التشبث بآراء شخص واحد، أو فصيل واحد، وتكوين جبهة للدفاع عن أفكاره، كـــل أفكاره، حتى لو كان هذا الشخص هو عدنان إبراهيم نفسه.
نعم، الدكتور عدنان إبراهيم محور رئيسي في حياتي، منذ ظهوره فيها. ولكنّي لن أشعر أبدًا بقيمة نفسي وعقلي، إذا خرجت من قبضة أولئك الشيوخ، إلى قبضة أخرى، حتى لو كانت قبضة شخص مستنير، مثل الدكتور عدنان، وهذا هو جوهر ما يحاول عدنان أن يوصله دائما إلى من يستمع إليه "انتقدني، عارضني، واجهني بخطئي"، لا يدّعى أنه يتكلم باسم الدين، وأن من يعارض ما يقوله فقد عارض الله ورسوله. ولكن، من يعارض ما يقوله فقد عارض اجتهاده، وفقط".
شكراً للمهندس الشاب مصطفى محمود، وتحية لكل من يجتهد في البحث عن الحقيقة، ويعمل عقله وتفكيره في كل ما حوله، شكراً لكل من يحترم حرية التفكير والتعبير والشك والسؤال والنقد، ولا يخشى من أي رأي مخالفٍ له، حتى لو كان يراه متهافتاً أو مرفوضاً، شكرا لكل من يأنف من السير في أي قطيع، حتى لو كان قطيعاً يعد بأخذه إلى الجنة.
بقلم: بلال فضل