تعتبر بلادنا من البلدان التي تتميز بالتعدد العرقي الواضح و الفُرًاقِ الطًبًقِي الفَاضِحِ ولقد أثبتت التجارب أن نموذج الدولة الأنسب لهذا النوع من البلدان و المجتمعات هو "دولة المواطنة" التي تحارب و تزيل و تذيب الفُرًاقَ الطبقي فتذره قاعا صَفْصَفًا و تُنَمِي و تُعَزِزُ و تُوَسِعُ المشترك بين الأعراق مع احترام وتثمين و تخليد الخصوصيات الثقافية و التقاليدية لكل عرق علي حدة.
و لا ريب في أن المدرسة الجمهورية التي تعني مدرسة المساواة و تكافئ الفرص في التعليم هي الخلية الأولي لدولة المواطنة فإذا وُجدت الإرادة السياسية الصادقة و وُجهت الموارد البشرية و المالية الكافية إلي الخلية الأولي للمواطنة نَمَتْ و نضجت و أنتجت مواطنين متناصحين متناغمين مؤمنين بالمصير المشترك يُوثِرُونَ علي أنفسهم و يُوَقِرُ و يُعَزِرُ بعضهم الخصوصيات الثقافية للبعض الآخر.
و إذا غابت الرؤية المرجعية و "بَرُدَتْ" الهمة السياسية وأسند ثقل التعليم -غالبا- إلي من لا "يشفق" علي نفسه من حجم المسؤولية كما حدث ببلادنا خلال العقود الماضية فلا يُتَوَقًعُ إلا حصاد تعليم متعدد التسارعات العرقية و الشرائحية و الطبقية و المناطقية المؤدي إلي بَوَارِ أو زوال دولة المواطنة والمفضي إلي رَوَاجِ الخطاب العنصري و الشرائحي و المناطقي و الانفصالي،...!!
و لقد دلت بعض الإجراءات المتخذة مؤخرا علي "اسْتِفَاقَةٍ سِيًاسِيًةٍ" جديدة بخصوص محورية التربية و التعليم في بناء و تعزيز دولة المواطنة من أهمها إعلان 2015 سنة للتعليم و إعداد برنامج وطني لبناء و تجهيز المرافق التعليمية و تنظيم المنتديات العامة للتعليم و إن لم تستطع تلك المنتديات تعبئة الكثير من "مكنون الكفاءات الوطنية" بفعل غياب التوافق السياسي و تَغْيِيبِ بعض الكفاءات المتخصصة الوِضًاءَةِ التي لا تمتلك جسورا مفتوحة مع دوائر النفوذ.
لكن كل الإجراءات آنفة الذكر تظل عاجزة عن مواجهة مَعَاضِلِ التعليم خصوصا في مناخ فكري و سياسي -رغم تَنَافُرِهِ و تَدَابُرِهِ- يكاد يُجْمِعُ علي شعار واحد لمواجهة المشاكل الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الثقافية للبلد وهو أن " الحَلً فِي التًعْلِيمِ" الأمر الذي يتطلب من الجميع وثبة وطنية تستنهض الهمم و تعبئ الموارد العامة و الخاصة من أجل إنقاذ المدرسة الجمهورية التي إذا صلحت صلح الوطن و أقيمت دولة المواطنة.
و يتعين في هذا الصدد أن تبادر الحكومة إلي إعداد و اعتماد استراتجية عشرية للنهوض بقطاع التعليم طموحة الأهداف يتم تمويلها عبر ترفيع النسبة المخصصة للتعليم من الناتج الوطني الخام و تعبئة باقي الموارد اللازمة من الشركاء في التنمية و الدول المانحة و الدول الشقيقة و الصديقة وَهْبًا و اقتراضا...
و علاوة علي الجهد الرسمي فإنه لا غني مطلقا عن مساهمة المجتمع من خلال التزام كل أسرة موريتانية تسدد رسوم دراسة أبنائها في المدارس الحرة الموريتانية أو الأجنبية أو "المختلطة" بأن تدفع رسوم دراسة تلميذ إضافي من باب "التكافل الدراسي" و أن "رُسُومَ دِرَاسَةِ الإِثْنَيْنِ تَكْفِي الثًلاَثَةَ"!!
و إذا ما علمنا أن عدد التلاميذ الموريتانيين المنتسبين إلي المدارس الابتدائية و الإعدادية و الثانوية الحرة يقارب 120.000 تلميذا منتسبا تتراوح رسوم الدراسة التي يدفعها وكلاؤهم عن التلميذ الواحد ما بين 200.000 أوقية و 50000 للشهر ببعض المؤسسات التعليمية و 30.000 و 5000 للشهر بجمهور المؤسسات التعليمية الحرة.
و لو افترضنا من باب التقدير المُخَفِفِ أن المتوسط الوطني للرسوم الدراسية التي تدفع عن التلميذ الواحد لا يتجاوز 10.000 أوقية للشهر فإن مساهمة المجتمع ستكون علي النحو التالي:-
إجمالي عدد التلاميذ
متوسط الرسوم الدراسية/الشهر/التلميذ
إجمالي الرسوم الدراسية/التلميذ/9أشهر
المبلغ الإجمالي/ الأوقية
120.000
10.000
90.000
10.800.000.000
و تأسيسا علي لغة الأرقام السابقة التي وضحت أن مساهمة المجتمع قد تقترب من 11 مليار أوقية أقترح مأسسة الجهد المجتمعي في تمويل الاستراتجية العشرية للنهوض بقطاع التعليم المقترحة من خلال "إنشاء صندوق وطني للتكافل الدراسي" يتم تمويله من خلال إرساء "رسم التكافل الدراسي" الذي يُفْرَضُ علي وكلاء التلاميذ المنتسبين إلي التعليم الحر وفق القاعدة سالفة البيان " رسوم تعليم الولدين تكفي الثلاثة"!!.
و يستحسن أن يتم حصر توجيه موارد صندوق التكافل الدراسي إلي النهوض بالتعليم في مناطق تواجد رواسب الاسترقاق بحيث يخصص ثلث الصندوق إلي مكونة دعم التعليم المحظري فيما يوجه الثلث الآخر إلي صرف تشجيعات مغرية للمعلمين و الأساتذة الذين يداومن بانتظام و يحصل تلاميذهم علي نتائج متميزة علي أن يصرف الثلث الأخير في شكل منح دراسية و إعانات مالية مباشرة للأسر التي ترسل ابناءها إلي المحاظر و المدارس و تسهر علي مواظبتهم و تحصيلهم.
أكاد أجزم بل أقسم أنه ما من موريتاني متمتع بملكاته العقلية و حواسه الوطنية سيتخلف أو يتهرب من دفع رسوم التكافل الدراسي بشرط أن توفق الحكومة في"عرض الأسباب" و شرحها و إسناد تأسيس الصندوق و تسييره لشخصيات وطنية مُتَوَاتَرٍ علي كفاءتها و أمانتها و استشعارها "لمخاطر الألغام الاجتماعية الموقوتة"!!!.
المختار ولد داهي،سفير سابق