أمام خيمته الشهيرة في ضاحية طرابلس.. وقفنا أربعة صحفيين وإعلاميين مصريين أمام معمر القذافي.. في حوار جمع شتات القضايا.. في مقدمته.. كان الحصار المفروض على ليبيا بسبب قضية لوكيربي الشهيرة.. لم يكن الحوار معداً.. أو للنشر.. ولكنه كان على سبيل “الدردشة” وبناء على طلبه عندما علم بوجود الوفد المصري.. المرافق لضيف كبير جاء للقذافي حاملاً رسالة من الرئيس الأسبق حسني مبارك.. فوجئنا بالقذافي خارجاً بمفرده من الخيمة.. طالباً لقاءنا.. صال وجال.. وشرح واستفاض.. وكعادة آرائه الغريبة والمفاجئة.. بدت الدهشة المفاجئة على وجهي دون أن أدري للحظة عابرة.. لمحها.. وكان تعقيبه أكثر مفاجأة وغرابة.. قال.. الكلام ما عاجبكم.. مش أنتم في مصر بتقولوا عني – وبإشارة من يده التي اعتدنا التعبير بها عن الجنون – نتلعثم في الاعتذارات والتبريرات.. ويواصل هو الحديث.. قال: العرب جميعهم.. هم المجانين.. ولكن لم يعرفوا ويفهموا ذلك إلا بعد فوات الأوان.. وواصل لا سبيل للعرب.. إلا ما أقوله.. قوتهم.. عزتهم.. كرامتهم.. مصلحة شعوبهم.. وقوفهم في وجه كل الأطماع الأمريكية والأوروبية.. الاستعمارية.. الامبريالية.. لن يتحقق شيء.. إلا بوحدتهم.. دولة واحدة.. قيادة واحدة.. وشعب واحد.. وأضاف الشعوب تؤيدني.. ولكن من يرفض هم الأمراء والملوك والرؤساء.. كل منهم يريد الحفاظ على “الكرسي” لنفسه.. وكل منهم لا يملك قراره يتبع سيده في البيت الأبيض وأتباعه بأوروبا.. وهؤلاء هم المتآمرون الحقيقيون على العرب.
رحل الرجل.. ضحية المؤامرة عليه وعلينا.. وأشهد الله.. أن ما جاء في هذه المقدمة الطويلة.. هو ما حدث.. ولكنها ليست قصة للتسلية.. أو للاستشهاد بحكمة ومنطق الزعيم.. فقد كان له من الآراء والمواقف.. ما يدعو للحرج أو السخرية من تفكير رئيس عربي.. ولكن لا تنسوا أيضاً أن ما طرحه القذافي من سنوات طويلة بشأن حل القضية الفلسطينية بإقامة دولة “إسراطين” يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون معاً.. وكانت قصة للتسلية والاستهزاء.. أحد الأفكار الجادة التي طرحت رسمياً.. من بعض الأطراف ودوائر صنع القرار ومراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية.. وبعد سنوات طويلة من اقتراح القذافي الغريب.. ولكن فلسطين ليست موضوعنا اليوم.. ولا آراء القذافي ومواقفه.
ورغم قناعتي بأن القذافي قدم طرح الوحدة العربية من منطق أن يكون هو الرئيس والزعيم.. إلا أن ما تصورناه جنوناً في طرح القذافي.. هو اليوم “عين العقل”.. وليس بالضرورة وبالطبع أن تكون الوحدة كلها طرحها القذافي “باندماج عربي كامل”.. فالتجربة والواقع على مدار العشرين عاماً الماضية ومع بدء انفراط عقد العرب بسقوط العراق.. تؤكد أننا نسير إلى مصير محتوم.. لا ملامح له إلا هو ان العرب.. وضياع القليل مما يمتلكون من السيادة.. ان لم يكن ضياع قوام كل دولة وتفتت قوتها ووحدتها.. لا يوجد رئيس أو ملك مهما امتلك من حصافة الفكر.. ومهما كانت أجهزته ودوائر صنع قراره ومراكز بحوثه أن يحدد موقفاً أو يصدر قراراً يتعدى تأثيره أو تداعياته أكثر من سنوات تعد على اليد الواحدة.. منطقة تعيش وضعاً.. معقداً متشابكاً.. قومياً.. وإقليمياً ودولياً.. سياسياً.. وعرقياً وطائفياً.. وأحياناً مزاجياً وشخصياً حسب نزعات أمير أو ملك.. وفصائل إرهاب.. بقوة دول عسكرياً ومالياً.. تقتل وتخرب وتفكك أوصال العرب.. فمن يستطيع تلمس الطريق لمسافة منظورة وسط هذا الظلام.. واختلاف المصالح والأغراض؟
< < <
لم تكن نصيحة القذافي بجديدة.. ولم تكن الجهود المضادة لإفشالها بجديدة.. ولم تكن بدايات ومقدمات الذي نعيشه مع بدء التنفيذ الواقعي من 20 عاماً لسقوط العراق.. الدولة الأكبر والأكثر قوة وثراء بجديد.. جاء عبدالناصر بحلم الوحدة العربية.. كان يدرك أن حفاظ العرب على استقلالهم وسيادتهم الحقيقية وكرامتهم.. لن يتحقق إلا بقوتهم.. في وحدة القرار.. ومواردهم الاقتصادية وثرواتهم الطبيعية.. وقوة جيوشهم.. وحياة كريمة لشعوبهم.. مع تعليمهم وتثقيفهم واللحاق بالتطور العلمي والتكنولوجي.. تكالبوا عليه.. فكيف لمن تبنى التحرر والاستقلال.. ان يدعو أيضاً لانتفاض قامة العرب والنهوض بهم.. كسروه في يونيو 1967.. وأشعلوا المنطقة صراعاً سياسياً وحروبا أهلية للقضاء نهائياً على “قضية الشعب الفلسطيني” وحلم اتفاقية الدفاع العربي المشترك حتى أماتوه.. واشتدت المؤامرات على العرب.. مع انتصارات أكتوبر 1973.. فحينها وكأن أمريكا والغرب.. أقسموا على قلب رجل واحد.. ألا تقوم للعرب بعد ذلك قائمة.. ولنجد العرب بعد ذلك قد تحرروا من عبودية الاستعمار شكلاً.. بينما يربطهم “حبل سري” من هيمنة الدول الكبرى عليه والتبعية لها في المصير والقرار.
< < <
هذا الوضع المرفوض شعبياً.. كان مقبولاً من حيث الشكل والذرائع لدى قادة العرب.. فماذا بهم اليوم.. ببزوغ إيران كقوة إقليمية وحيدة في المنطقة.. هل يظل العرب تابعين للقوة الدولية الأكبر.. وخاضعين للقوة الإقليمية القادمة؟! تكالب علينا الأمريكان والإيرانيون بالاتفاق الذي توصلوا إليه للملف النووي.. والذي اقتضى رفع العقوبات الدولية عن إيران.. وتبدأ جني ثماره هذا الاسبوع باستلام الجزء الأول من مستحقاتها المالية المجمدة والتي تصل إلى مائة مليار دولار.
إيران بقوتها الاقتصادية والعسكرية.. وبتفاهماتها مع الأمريكان دشنت مرحلة جديدة من تاريخها كقوة إقليمية نافذة في المنطقة.. لا حل في سوريا ولا اليمن.. ولا لبنان بدون الكلمة الإيرانية.. اما العراق فلا حديث عنها بعد أن أصبحت مستعمرة تابعة لطهران.
وفي الطريق قلاقل بالبحرين والسعودية.. وأمراء الحكم والإرهاب في غزة وجهوا البوصلة إلى إيران التي تدعمهم بمبالغ شهرية ثابتة.. ليظل حل القضية الفلسطينية معلقاً بإيران.. فإلى متى ينطلي على العرب كلام الأمريكان إن الاتفاق يساعد في تحقيق الاستقرار في المنطقة.. وكلام الإيرانيين بعدم تدخلهم في شئوننا أو أن الاتفاق يصب في صالح منطقة الشرق الأوسط عامة.. والخليج خاصة.. إيران التي ترفض عبور طائرات في أجوائها تعرض شاشاتها خرائط تسمي منطقة الخليج “بالخليج العربي” تتحدث عن صالح المنطقة.. بالطبع ما تضمره نفوسهم.. وتقوم عليه أيدلوجيتهم وتتحرك لتحقيق سياساتهم وتحالفاتهم اليوم.. ان ما يقصدونه استقرار الخليج الفارسي بعد فرض هيمنتهم على كل دول الخليج العربي.. ومع تصاعد نزعات الطائفية التي تغذيها أمريكا تفتيت باقي الدول العربية.. وما نشهده من جماعات الإرهاب وميليشيات السنة والشيعة.. ما هم إلا الأداة التي تمت صناعتها لتحقيق هذه الأهداف.
< < <
والحديث عن وقف قدرات إيران النووية ما هو إلا تسويق أمريكي للعرب.. وبعيداً عن التفاصيل الفنية للاتفاق.. فإنه لا يعدو غير إرجاء لامتلاك إيران للسلاح النووي العسكري إلى ما بين عشرة إلى خمسة عشر عاماً.. فهم يمتلكون وباعتراف الاتفاق البنية الأساسية للتطوير.. تمكنهم من امتلاك القنبلة النووية خلال ثمانية شهور بدلاً من شهرين قبل الاتفاق.. أمام أكذوبة المتابعة والتفتيش.. فقد اشترطت إيران الاخطار المسبق قبل زيارة فريق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأربعة وعشرين يوماً.. “لماذا 24 تحديداً”.. بينما يتمتع الفريق مع أي دولة في العالم بالزيارة فجأة ودون اخطار.. تفاجأ الدولة بأن وفد الوكالة بالمطار.. ومن حقه أن يتوجه لأي موقع يحدده على الفور.
سواء تابعت الوكالة الدولية.. أو أجهزة المخابرات العالمية محاولات كسر إيران بنود الاتفاق خلال فترته الزمنية فإن إيران لن تتوقف عن برنامجها النووي.. فلن يصدم نظام الملالي الشعب بالتوقف عن مشروع قومي أنفقت عليه الدولة 400 مليار دولار منذ ان بدأت في تنفيذه سراً.. بينما تتقدم إلى الأمم المتحدة منذ عام 1979 بمشروع قرار لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية – وبالمناسبة مصر كانت شريكة معها في مشروع القرار.. ولم يتم الكشف عن المشروع إلا “بخيانة” وطنية لبعض أعضاء منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة.. الذين تقدموا بما لديهم من معلومات إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. تلقفت أمريكا المعلومات.. تعاملت معها واستغلت الفرصة ضد إيران التي كانت ومازالت في قطيعة دبلوماسية.
وحتى تبدو اللعبة المشتركة أكثر وضوحاً للعرب.. فرض مجلس الأمن في يوليو الماضي عقوبات على البرنامج الإيراني للصواريخ الباليستية.. ورغم ذلك تعمدت طهران توجيه لطمة جديدة لمجلس الأمن والمجتمع الدولي بإجراء تجاربها على الصاروخ الباليستي قبيل رفع عقوبات الاتفاق النووي بثمان وأربعين ساعة فأي نوايا طيبة يتحدث عنها الأمريكيون والإيرانيون.. وأي أمل لدى القوى الكبرى في أن إيران ستتوقف عن برنامجها النووي.. وأي حسن نية سنظل نتعامل به مع ما يحاك حولنا ضدنا.
< < <
نحن أمام واقع جديد.. لقوة إقليمية تنسق مع الولايات المتحدة وتمارس لعب الأدوار الذي نجحت فيه مع روسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.. وفرضت إيران نفسها كشريك في إدارة النزاعات بمنطقة الشرق الأوسط.. كانت تمول وتسلح الميلشيات العسكرية والجماعات الإرهابية سراً.. وتشعل صراعات سياسية علناً.. واليوم هي لاعب رئيسي مع الكبار من القوى الدولية.. الذين يديرون الصراع المسلح أو الحلول السياسية.. شريك معهم وبقوة سواء أرادوا أو رغم أنفهم.. جون كيري وزير الخارجية
الأمريكي يعتبر أن إحدى ثمار الاتفاق مع إيران تزايد فرصة الحل السياسي في سوريا.
نحن اليوم أمام الاختبار الأصعب في تاريخ الأمة العربية.. نتابع منذ سنوات سيناريو النهاية للمنطقة.. ونتعامل معه وكأنه مسلسل دراما تليفزيونية وننتظر لحظة النهاية.
في مصر.. بالتأكيد كلنا.. لا ننكر هموم الحياة ولقمة العيش واهتمام الدولة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.. دون أن يشغلنا هذا عن الخطر الأكبر.. وهو بالتأكيد ما تتعامل معه القيادة السياسية بعين الاعتبار.. ولكن للإعلام عتاب في عدم تنوير الرأي العام.. وتغييب الوعي باهتمامات مبالغ فيها لقضايا فرعية وهامشية.. والترويج لأفكار ودعوات متعمدة ممن يكنون لمصر وشعبها الشر.. وما نلاحظه من مبالغة الإعلام في دعوات التظاهر في 25 يناير.. ما هو إلا حالة صارخة.. وانجرت لها بعض الأجهزة التنفيذية في الدولة.. فأصبحت مصر لا حوار فيها.. إلا ماذا سيحدث في 25 يناير.. حوار طغى على كل انجاز يتم.. وكل تحرك مصري دولي.. وتناسى الجميع ما ينتظر مصر والمنطقة من تداعيات الاتفاق الإيراني.. وخلد العرب إعلاماً وسياسيين إلى الانتظار.. حتى يعرفوا هل ستغير إيران من سياساتها وتدخلاتها في المنطقة.. أم ستسير على نفس النهج.. فإلى متى الانتظار؟!
كما قلت القيادة السياسية تأخذ في الحسبان كل التطورات الإقليمية والدولية وتداعياتها على المنطقة.. وبعين نافذة.. كان التحذير مما يحدث.. ودائماً التحرك الدبلوماسي بالحلول السياسية والحفاظ على سيادة ووحدة جميع الأراضي العربية.. وواقعياً.. الاقتراح بإنشاء القوة العربية المشتركة.. القادرة على مواجهة الإرهاب.. وإحباط وتقطيع كل خيوط التآمر علينا.. ولكن ما يلوح في الأفق.. ان يلحق هذا الاقتراح باتفاقية الدفاع العربي المشترك.
< < <
هل يضحي القادة العرب.. بقوة الجيوش.. وسيادة وتطور بلادهم.. ورفاهية شعوبهم.. من أجل الحفاظ على العروش.. يبدو أننا في حاجة إلى نصيحة القذافي مرة ثانية؟!
بقلم: السيد النجار