المختار ولد داهي، سفير سابق. خبير تقييم السياسات العمومية.
تُعاني العديد من بلدان العالم الثالث و البلدان الإفريقية الناطقة كُلِيًا أو جُزْئِيًا باللغة الفرنسية خاصة من شيئ من غَرَابَةِ و "أجنبية" و لامقروئية تَسْمِيًاتِ المؤسسات السياسية و الإدارية الوطنية.
ذلك أن تلك المؤسسات في الغالب الأعم تشكل نِسَخًا أو "اسْتِنْسَاخَاتٍ" "طِبْقَ الأصل و مُصَدًقَةً" قَلْبًا و قَالِبًا من التنظيم السياسي و الإداري للدولة الفرنسية الذي يُتَرْجِمُ أصلا خُلاصات تجارب و معارك اجتماعية و سياسية ساخنة،مريرة و طويلة خاصة بالمجتمع الفرنسي نفسه .
و يندرج هذا النوع من الاستنساخ الإداري تحت مصطلح "التًقْلِيدِ المُؤَسًسِي"Mimetisme Institutionnel" ذائع التداول في الحقل السياسي والمؤسسي و الإداري و الذي يمكن تعريفه بأنه" نقل التكنلوجيا (التقنيات) المؤسسية و الإدارية من بلد متقدم إلي بلد آخر أقل تقدما".
و يمكن تصنيف التقليد المؤسسي إلي ثلاثة أنواع أولها التقليد المؤسسي المُبْصِرُ و ثانيها التقليد المؤسسي الأَعْشَي و ثالثها التقليد المؤسسي الأَعْمَي. و التقليد المؤسسي المُبْصِرُ هو " نقل التقنيات المؤسسية بعد "تَكْرِيرِهَا" و تحويرها و تكييفها ودراسة التاريخ المؤسسي للبلد المُوًرِدِ و تمحيصه حتي تتلاءم التقنيات المؤسسية المستوردة مع ظروف البلد المُسْتَوْرِدِ".
و التقليد المؤسسي المُبْصِرُ سلوك سياسي و إداري مرغوب ،محمود معمول به بالدول المتقدمة و الدول النًاهِضَةِ التي يستفيد بعضها من بعض في مجالات التطوير المؤسسي و الإداري و من المتفق عليه أن ديناميكية و تفاعلية الأنظمة المؤسسية و الإدارية لتلك الدول يعود لها كبير الفضل في كسب رهانات التنمية و العدالة الاجتماعية.
أما التقليد المؤسسي الأعشي فيقصد به "استيراد بلد معين للتقنيات المؤسسية و الإدارية من بلد آخر بعد إجراء مُوًاءَمَاتٍ و ملاءمات بسيطة و محدودة و تعود محدودية تلك المواءمات غالبا إلي عوامل عديدة منها "فقر" الإرادة العمومية وأَنِيمْيَا "الهِمًةِ الوطنية" و العجز العلمي و الفني لِلنُخَبِ الإدارية بالدول المُسْتوردة".
و بخصوص التقليد المؤسسي الأعمي فيمكن تعريفه بأنه " استعمار مؤسسي عبر نَسْخِ(Copier)التقنيات المؤسسية و الإدارية لبلد مُصًدِرٍ ذا علاقة خاصة ببلد مستورد( علاقة المُسْتَعمر بالمُسْتَعْمَرِ) ولَصْقُهَا (Coller) علي المشهد السياسي و الإداري للبلد المُسْتَقْبِلِ دون بذل أدني و أبسط مجهود ذهني لِتَبْيِئَة و تَوْطِينِ تلك الأجهزة المؤسسية و الإدارية المُسْتَوْردَةِ ".
و لا شك أن المتابع و المحلل للشأن المؤسسي مُدْرِكٌ أن ما هو حاصل ببلادنا من التقليد المؤسسي و الإداري للنظام المؤسسي و الإداري الفرنسي أقرب إلي التصنيف في خانة التقليد المؤسسي الأعشي المكروه منه إلي التسجيل ضمن فئتي التقليد المؤسسي المُبْصرِ المحمود و التقليد المؤسسي الأعمي المذموم.!!
حيث لا يختلف دستور 1991 المعمول به حاليا ببلادنا و المؤسسات الدستورية المنبثقة عنه إلا اختلافا طفيفا مع دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة 1958 و المؤسسات الدستورية المنبثقة عنه.
إذ يتقاطع الدستوران في استحداث المؤسسات الستورية التالية: رئاسة الجمهورية الجمعية الوطنية، مجلس الشيوخ، المجلس الدستوري، الوزارة الاولي، ، المجلس الاقتصادي و الاجتماعي، وسيط الجمهورية، المحكمة العليا،محكمة الحسابات، محكمة العدل السامية،...
وقد حاول المشرع الموريتاني ساعتئذ إجراء بعض المواءمات في مهام و صلاحيات بعض المؤسسات لكن تلك المحاولات أخفقت بفعل التسرع و الخوف من عدوي "رِيحِ البرسترويكا" و عواقب عدم اتباع وَصَفَات قمة "لابول" الشهيرة كما ظلت القوالب و التسميات المؤسسية و الإدارية متطابقة شاهدة و ناطقة "بالكسل الفكري" الواضح و التقليد المؤسسي الأعشي.!!
و لإثبات تجليات الكسل الفكري و التقليد المؤسسي الأعشي العديدة سأكتفي- اعتبار لِمَقَامِ هذا المَقَالِ- بعرض مثالين أولهما استيراد و نَسْخُ تسمية "الجمعية الوطنية" و إطلاقها علي الهيئة التشريعية الوطنية الجامعة لممثلي الشعب و نوابه.
في حين أن تلك التسمية هي نتاج لتطور مؤسسي فرنسي عسير حصل بموجبه "نواب الصنف الآخر" من غير صِنْفَيْ النبلاء و رجال الدين "Les Députés du tiers état" بعد الثورة الفرنسية علي حق توسيع صلاحيتهم إلي المستوي الوطني بعد أن ظلت دائرة اختصاصهم في فترة الأنظمة القديمةles Anciens Régimes "حَبِيسَةَ" الجدران الجهوية و المناطقية!!.
و قد كان من الأولي البحث في تراثنا المحلي العربي أو الإفريقي عن مسميات أكثر مقروئية و أقرب إلي معاني و مهام التمثيل و التشريع "كدار الشوري" و "مجلس الأمة" و"مجلس الجماعة" و "بَاتُو وُورُو" " Batou Wuru" و التي تعني مجلس الحَيِ السكني بالبولارية كما أن مسميات أخري مستوحاة من طبيعة مهام النواب هي أقرب إلي الاذهان و أدعي إلي القبول و أدني إلي التملك من طرف العموم "كبيت التشريع" و "دار المشرع"،....
و ثاني الأمثلة علي التقليد المؤسسي الأعشي ببلادنا هو تسمية مؤسسة وسيط الجمهوريةle mediateur de la République/Ombudsmanو التي هي في الاصل فكرة مؤسسية مستوردة من دولة "السويد" حيث كان من مهام الوسيط استلام و معالجة تظلمات الرعية الموجهة إلي الملك و هو ما يكافئ بالضبط في التراث السياسي و الإداري الإسلامي "ديوان المظالم" فكيف نُجَاهِر و نُفَاخِرُ ُ باللجوء إلي اكتشاف و استيراد ما هو متوفر لدينا منذ قرون عديدة مديدة؟!.
و الحق أن الحالة المؤسسية و الإدارية ببلادنا أحسن قليلا من مثيلاتها في بعض الدول الإفريقية الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية و التي يُخَيًلُ للباحث و المراقب لحقلها المؤسسي و الإداري أن الأمر متعلق "بفرنسا بلا فرنسيين"!!
و مع ذلك فإني أقترح أن تبادر الحكومة إلي إنشاء لجنة عليا يعهد بها إلي أحد أَلْمَعِ و أَقْدَمِ الخبراء المؤسسين و الإداريين الوطنيين مكلفة بترسيخ "تَوْطِين" و "تَبْيِئَةً" المشهد المؤسسي و الإداري حتي تكون المؤسسات السياسية و الإدارية الوطنية أكثر مقروئية و "مفهومية" و استيعابا و قبولا و تملكا من طرف المواطنيين و كي نخرج بلدنا من حالة التقليد المؤسسي الأعشي إلي حالة التقليد المؤسسي المُبْصِرِ!!.