من الحقائق التي نغفل عنها بسبب فوضى التفاصيل وفداحة صور الدمار أن القوة هي المحرك الأساسي للتاريخ، وأن الواقع المرَّ لا ينتج إلا أشجارا من الحنظل وغابات من الزقوم.
لا يستقر مجلس قومٍ -أيامَ الناس هذه- إلا تطرقوا لمشكلة التطرف الداعشي وعلاقته بالثقافة الإسلامية. ثم يدندن القومُ أثناء أحاديثهم تلك حول تراث الأمة مستشهدين بنصوص قرآنية وآثار نبوية. وإذا كثر فيهم المتصدرون ذكروا ابنَ تيمية وسيد قطب وآخرين، وأدخلوا في ثنايا تلك الأحاديث أفكارا استشراقية المنبع، مغلفةً بغلاف إسلامي. غير أن المتأمل في الواقع الموّار للأمة يحسُن به أن يكون أنفذ بصيرة، وأبعد غورا وأغوص على المعاني من أصحاب تلك التفسيرات المبتذلة.
إن ظهور حركة داعش وأخواتها أمر طبيعي ما كان ينبغي أن يستغرب؛ فغير الطبيعي أن لا توجد داعش. إن وجود داعش دليل على أن جسد الأمة المنهك بالجراح لم يتعفن بعد، وأن جهاز مناعتها ما زال يعمل بكفاءة عالية. فإذا حوصر الجسم بجرثومة خطيرة استنفر محاولا التخلص من تلك الجرثومة، لكنه قد ينتهي بقضم أجهزة من أجهزته الحيوية ظناً منه أنه يحارب الجرثومة الخطيرة.
وذاك -لعمري- أقرب مثال على انتشار التنظيمات ذات الهوى الداعشي في جسد الأمة.
إذ كيف يتفق أثرياء المنطقة والقوى الكبرى على حرمان العرب -وهم قاطرة الحضارة الإسلامية- من الحرية والكرامة ولا ينتفض المنتفضون. كيف يمكن أن يقوم عسكري بالإطاحة برئيس منتخب جاءت به ثورة شعبية، ثم يقتل ذلك الجنرال في غداة واحدة خمسةَ آلاف شخص ويبارك العالم ذلك، ثم يستغرب الناس ازدهار ردة فعل مجنونة كداعش؟
إن الواقع الصارخ ينتج ردا صارخا، والواقع الهادئ ينتج ردود أفعال هادئة؛ فأحزاب السلام ظهرت في أكثر البيئات استقرارا ورفاهية وإعلاء من قيمة الفرد في أوروبا، ونبتت جماعات الهجرة والتكفير في أقبية التعذيب بسجون عساكر مصر، وظهر نمور التاميل -مُروجوا فن التفجيرات الانتحارية – من رحم سياسة الاختفاء القسري في سيريلنكا، وبذا يقضي منطق الأشياء أن تظهر داعش في منطقتنا نتيجة من نتائج الثورة المضادة الانتقامية العمياء. فقد خرج الشباب مناديا بالسلمية، حاملا الزهور، فقوبل ببنادق عساكره، بتمويل من أثرياء بني جلدته، ومباركة من المتحكمين في المسرح السياسي العالمي.
إن من الجناية على العقل أن يقع ما وقع من امتهان للإنسان ثم يتوقع الناس ميلاد مخلوق غير داعش، فهذا المجتمع العربي على صورته الحالية -التي صنعها الاستبداد- لن ينتج إلا شاباً طريدَ جناياتٍ، مُوكّلاً بمظانّ الموت يتبعها، فالإنسان “رئيسٌ بطبعه بمُقتضى الاستخلاف الذي خُلق له” -كما يقول ابن خلدون- ولذا لابد أن يُشْركَ في إدارة أمره وينال قسطا من حريته، أو يتخذ سببا إلى السماء، أو ينفذ من الأرض، أو يتدَعْشَنَ.
أما السكون الأبدي فوهمٌ لا يتحقق إلا في أدمغة المستبدين، وسلْ الشاهَ والقذافيَ والزينَ ومباركا وبشارا.. فسلام دول الاستبداد سلام زائف على حد قول القول:
وما الدهرُ في حال السكون بساكنٍ * ولكنه مُستَجمِعٌ لوُثوبِ!
ثم إن الشعور بالغبن يضاعفه تقارب الأمم وامّحاءُ المسافات بفعل ضغط العولمة وثورة الاتصالات، فالشاب العربي السجين في مجتمع الاستبداد هذا يلمس اليوم طرف هاتفه لمسةً واحدة فيرى دول العام تعزل حكامها وتوليهم، وتحاكمهم وتسجنهم، ثم يلتفت إلى أبيه الطاعن في السن فيراه مُظلّلا بالهوان، مهدورَ الكرامة عند أول نقطة تفتيش للشرطة.
ثم نستغرب بعد ذلك أن يرميَ هذا الشاب هاتفه ذلك، ممزقا عالمَه الساكنَ وهو يردد ما قال قيس بن زهير قبل أكثر من 1400 عام: ” إن الموت في بني ذبيان خيرٌ من الحياة في بني عامر!”
ونحن نعلم أن هؤلاء الشبان أبناء “حضارة ذات تقاليد عسكرية نبيلة” كما يقول توينبي، فكيف لا تستيقظ داخلهم الحمية حتى لو كانت حمية غير عاقلة ولا منضبطة، ومن غير الطبيعي أن لا تستيقظ تلك الحمية.
ومع إيلام المرحلة الداعشية هذه التي فرضها المستبدون ومن ظاهرهم على الشعوب، فإن في الحرب محامد لا تخفى.
فالحرب -كما يقول سيغموند فرويد- تخلف “أمريْن لا شك فيهما: الأول: اختلاف النظرة إلى الموت، والثاني: أنها تحررنا من أوهام السلم”.
ولعمري لقد وقع ذلك. فالموت لم يعد ذا بال بفعل المصهرة الدائرة في ربوعنا. فلا يستغربنَّ مستغربٌ انخراط الشباب في تنظيمات العنف تلك، ولا في إيغالها في العنف والقتل، فقد ولدت الثورة المضادة منطقا آخر، وحالة نفسية أخرى، “وعالما مستأنفا” جديدا، على لغة ابن خلدون.
وقد بنى المستبدون صرحا من الأوهام تهاوى تحت واقع المصهرة الجارية. فمن يصدق اليوم أن هناك دولا قائمة على حماية أهل السنة؟ ومن يصدق اليوم أن الجيوش العربية مؤسسات لحماية الإنسان العربي والذب عن حياضه؟
لقد تحرر الإنسان العربي من تلك الأوهام وهو موقن -في لا وعيه على الأقل- أن لا ناصر له إلا نفسه، وأن جيوشه لم تؤسس لحمايته بل لقمعه ومنازعته رغيف خبزه.
حقا؛ إن الحرب تحررنا من أوهام السلم.