عندما وقع نظري لأول مرة على تلك اللوحة المنغرسة وسط فوضى ملتقى طرق مدريد، وأنا أتلمس طريقي بين الحفر والأجساد المنهكة ذات صباح شتوي مغبر، استغربت الأمر كثيرا.
(بلدية عرفات ترحب بكم)، وما الذي يجعل هذه البلدية بالذات دون كل بلديات نواكشوط الأخرى ومجموعتها الحضرية، هي وحدها من يفكر في الترحيب بنا؟
لقد تعودنا أن نصادف لوحة لمصنع لفوط الأطفال أو الملابس الداخلية أو العلكة أو المشروبات الغازية ترحب بنا أو تتمنى لنا سفرا سعيدا، ولكننا لم نحظ يوما ولو بنصف كلمة من بلدياتنا، فهي مخلوقات لا أحاسيس لها ولا مشاعر.
في البداية قلت لنفسي إنها مجرد حركة أخرى من حركات "الجماعة"، فكما تعلمون هي دار بعثتهم، ولا شك أنهم من باب الدعاية السياسة أرادوا أن ينفردوا بهذا السبق، لكني سرعان ما أقلعت عن هذا التفسير، إذ لو أن الأمر كذلك لكانت الأغلبية ملأت نواكشوط لوحات ترحيب بل وجعلتها تتدلى علينا من السماء (سلس).
التفسير الثاني الذي راودني هو أن يكون أهل البلدية خشوا أن يضل "الشيخ حسن" حفظه الله ورعاه طريقه أو أن ينساهم بعدما غادر الولاية "الجنونية"، عفوا أقصد الجنوبية، ويمم وجهه غربا، فوضعوا تلك اللوحة في طريقه، حتى إذا ما مر بها ذات يوم، تذكر أن له أهلا ورحما في بلدية عرفات فحن إليهم.
لكني سرعان ما صرفت النظر عن هذا التفسير أيضا، فالشيخ حسن لم يغادر بلديته على ما أعتقد، إذ ما الذي سيفعله الرجل في مؤسسة خاوية على عروشها، يعارضها كل شيء في هذه الدنيا حتى المعارضة نفسها.
التفسير الآخر الذي بدر لي، هو أن يكون قد بقي لدى بلدية عرفات مبلغ ضئيل من الميزانية فاتصلوا بالشيخ وطلبوا رأيه، ولأن الزعيم مشغول جدا فقد أمرهم بأن ينفقوه في أي شيء فصنعوا به تلك اللوحة.
تماما كما حدث ذات مرة في أحد أقطار وطننا العربي الكبير، الممتد من حظنا العاثر إلى جرحنا الغائر، فقد وقعت مخابرات تلك الدولة على حمار يحمل صندوقا من المجوهرات، وجاءوا به إلى الزعيم فاستبقى المجوهرات لنفسه، وعندما سألوه ما الذي يفعلونه بالحمار أجابهم: "اذهبوا به إلى مجلس النواب".
أعرف أنكم ستقولون إن هذا حشو وخروج عن الموضوع، ولكن أعذروني فقد أردت فقط أن أقول لكل أولئك الذين لا شغل لهم سوى الحديث صباحا ومساء عن حل البرلمان، أننا إذا قمنا بحله لن نجد مكانا آخر نضع فيه حميرنا، وكلكم يعرف حجم الحمير التي لدينا (يا لطيف). المهم، أنني سرعان ما أقلعت عن هذا التفسير هو الآخر، فالبلديات لم تعد لديها ميزانيات حتى تستبقي أو لا تستبقي منها شيئا.
التفسير الوحيد الذي بقي في جعبتي وبدا لي منطقيا أكثر من اللازم وذكيا للغاية، هو أن تكون تلك اللوحة قد هبطت من السماء، ولا تصرخوا في وجهي أن هذا الأمر غير معقول ومستحيل ويتنافى مع جميع القوانين والأعراف، فما دامت هناك سيارات تهبط من السماء وتستهلك "كازوالنا" كما تقول حكومتنا، فلماذا لا نصدق أن هناك لوحة من حديد عند كرفور مدريد هبطت هي الأخرى من السماء...الأمر بسيط.
على العموم هذه اللوحة رغم أنها ما زالت تستفزني كلما مررت بها، إلا أنها تدخل السرور إلى قلبي كلما قرأتها، لأنها الشيء الوحيد الذي يرحب بك في مدينة تقدم لك كل صباح ألف سبب لكي تغادرها.