كنت مرة أحادث أحد أصحابي اليساريين، وكان مما قلت له: إن أي نشاط فكري يقوم به يساري أو غيره في موريتانيا يسعدني خلاف معظم الناس. فاستغرب صاحبي ذلك وطلب الإيضاح. فقلت له إنني أنظر لأي نشاط سياسي جاد، أو كتابة فكرية رصينة –مهما خالفتُها في التوجه- نظرةً إيجابية، وأومن في قرارة نفسي بأن خراجها سيأتيني، فلتمطرْ حيث شاءت. إذ أنا من المؤمنين بأن ممارسة الفعل السياسي تُنتج تراكما يربحه المواطن في النهاية، كما أن التدافع والتشاجر بين الأفكار يذهب خراجه في النهاية إلى مصلحة الأمة. فالطامة إنما هي الموات السياسي والثقافي.
ولعل من موبقات عصر التجريف المعرفي والسياسي الذي نعيشه اليوم نجاح المستبدين في زرع الشك في قلوب مستعبديهم من الفعل السياسي إذا قام به غير المستبد. فإذا تقدم الصفوف سياسي حريص على مصلحة بلده، داع إلى الإصلاح والإنصاف، قام هؤلاء المستعبدون وقالوا: هذا إنما يفعل ما يفعل لمصلحته السياسية الضيقة. وذلك ضرب من رجم الغيب.
فالحديث عن النيات أمر مزعج، إذ لا يعلم السرائر غير خالقها، ولا طريقة لقياسها أو التأكد من سلامتها. لذلك جاءت القاعدة الإسلامية العظيمة قاضية بإيمان من ادعى الإيمان حتى لو أضمر الكفر، لأن الحكم على السرائر جورٌ، وادعاء الاطلاع على ما أجنت الصدور فتكٌ في الحكم.
وما زلت أذكر أن بداية انتباهي لبواكير فشل الثورة المصرية كان رصدي لمدح المتصدرين هناك بأن المظاهرات ليست مسيسة. إذ لا وجود لمظاهرة تنادي بالإصلاح السياسي بعيدا عن السياسية.
إن المتأمل في الساحات السياسية العربية اليوم يلاحظ انتشارا مزعجا لهذا النمط من الشك المريض في نيات الساسة، حتى أصبح من الدارج أن يقول الناشط: كنتُ سأحضر النشاط الفلاني لكنه تسيّس ولذا سأقاطعه. و هو يجهل –بسبب التجريف السياسي الذي تربى عليه هو وأجداده- أن المظاهرة التي كان سيحضرها تظل فعلا سياسيا ما دامت تتعاطى مع شأن عام –كما أسلفنا- سواء حضرها سياسيون معروفون أو حضرها غيرهم، وسواء أكانت تأييدا للسلطة أو معارضة لها.
لقد أنتج هذا النمط من التفكير الملتوي ظاهرة أخرى هي وصم الأحزاب السياسية والجماعات بأنها تسعى للوصول إلى السلطة؛ باعتبار ذلك عيبا. وما سبب تأسيس الحركة السياسية أصلا إلا السعي للوصول للسلطة؟ وما قيمة التيارات السياسية إذا كانت لا تكدح للوصول للحكم؟
إن الشعوب المعافاة في وعيها لا تعتبر السعي للوصول للسلطة عيبا، بل فضيلة. ومن ذا الذي حاول إصلاح مجتمع دون سير مُغِذٍّ للوصول إلى السلطة؟ تخيلوا أن الأميركيين تقاعسوا عن مرشحي رئاسياتهم قائلين لهم: أنتم لا تريدون إلا الوصول إلى السلطة! كيف ستدار البلاد وكيف سيسهر على مصالح الناس؟
ثم فكرْ في أي حركة سياسية نجحت عبر التاريخ، أو أي مصلح سياسي لم يسع للوصول إلى السلطة؟
تخيل مصير مواطني جنوب إفريقيا لو أنهم تآمروا على مانديلا ورهطه في المؤتمر الوطني الإفريقي، متهمين إياهم بأنهم لا يسعون إلا للوصول إلى السلطة؟
لقد ربّتْ الأنظمةُ القومية التي حكمتْ ديار العرب الناسَ على الشك في التحزب، حتى كان شعار أربعين عاما في ليبيا هو: من تحزب خان. وكان حرياً تربية الناس على عكس ذلك: من لم يتحزب فقد خان. فالإنسان مكلف باتخاذ موفق أخلاقي في هذه الدنيا. وما لم يقم بذلك الموقف الذي يمليه عليه ضميره فقد قصر في إنسانيته المبنية على استخلافه في الأرض، ولا استخلاف دون اهتمام بالشأن العام.
نعم، إنهم يسعون إلى السلطة، وتلك ميزتهم.
فاليساريون والاخوان المسلمون وكل الحركات السياسية يسعون للوصول إلى السلطة ولا عيب في ذلك على أي منهم. فعلى المرء أن يحاكمهم على أفعالهم ومواقفهم لا على نياتهم وسعيهم الدؤوب لإصلاح مجتمعاتهم. فالعيب ليس في مبدأ السعي للسلطة، بل في المواقف إذا ابتعدت عن المبدأ المعلن. فمن حق المرء أن يعيب على أدعياء الليبرالية في مصر مثلا وقوفهم مع الانقلابات، ويمكنه لوم القوميين على تسويغهم للاستبداد وتعلقهم بحذاء العسكر أنى كانوا، كما يمكنه انتقاد إسلاميي السودان على تنكبهم طريق الحرية وتصفيقهم لعسكريهم. وعليه في ذات الوقت مدح الإسلاميين في تونس ومصر لأنهم كانوا معبرين عن تطلعات الشعوب، ووصلوا للسلطة بإرادة الجماهير وخرجوا منها بسلطة الدبابات أو إيثار المصلحة العامة.
أما أن يُعاب أي من أولئك بالسعي إلى السلطة فتلك صبيانية سياسية، وعوج فكري. فالنظرة المتوجسة إلى التسيس واتهام النيات السياسية هو الحلم الذي يسعى له المستبدون. فهو يحرم خصومَ المستبدين من ممارسة السياسية، ويمنحهم حق ممارستها وحدهم.
إن من موبقات المستبدين أن أضرارهم لا تقتصر على سنوات حكمهم. بل يمتد ميراثهم المشؤوم مطاردا مستعبَديهم أجيالا؛ سواء من خلال حروب أهلية طاحنة، أو ثقافة سياسية شوهاء.