بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله
تُوُفِّى قُبيْلَ منتصَف ليلة الثلاثاء: 13جمادى الآخرة من عام 1437هـ ، بمستشفى "صباح" لأمراض القلب، فى العاصمة نُواكشوط ـ ابنُ عمنا الفاضلُ من كل وجهٍ: الشيخُ إسماعيلُ بنُ محمدِ بنِ الشيخ سَيِّدِى المختار (ابَّاه) بنِ الشيخ سَيِّدِى محمد بن الشيخ سِيدِىَ الكبير، عن اثنتين وثمانين سنة. ثم نقل إلى مقبرة ذويه الشهيرة بالبعلاتية قرب أبى تلميت، حيث دفن هنالك ضُحَى الغد. رحم الله السلف وبارك فى الخلف. آمين.
وكان بين وفاته ووفاة ابن عمه الخليفةِ العام لآل الشيخ سيدِىَ: موسى بنِ محمدٍ، شهرٌ كامل، لا يزيد ولا ينقص.
كان الشيخ إسماعيل آيةً فى الفضل والبِر والإحسان وإيتاء ذى القربى وإكرام الجار وفعل الخير وصنائع المعروف، مثالا فى حسن الخلق والأريحية والمُروءة والنُّبْل والتواضع والصبر والحلم والأدب والرزانة وسَعة العَطَن، والجلَد، والسعى الدَّءوب فى المصالح العامة، والقدرة على تحمل الأعباء الجِسام والاضطلاع بالمُهِمَّات العظام، حتى لو قيل: إنه كان نسخة طبق الأصل من أبيه فى سُؤْدَده وشمائله وحلمه وكرمه وجوده وفضائله وفواضله ما كان ذلك إلا الحقَّ المبين. وحسبُك بذلك مدحا.
لقد منّ الله علىَّ إذ عرفت الشيخ إسماعيلَ عن كثب فى السنغال، وفى البيت الحرام. وقديما قيل: إن الأسفار محكّ الرجال. فقد شاء الله عز وجل أَن لبِثنا فصولا من الدهر لا نبيت ولا نَقيل إلا فى غرفة واحدة بمكة المكرمة. ولا أذكر أنه ترك قيام ليلة واحدة طولَ تلك المُدَد المتفاوتة، ولا أنه زاد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة هدىَ النبىّ صلى الله عليه وسلم، ولا أنه قابل أحدا بما يكره، أو رُئِى مغضَبا أو مُسْتفَزا. بل لم أرَه قبلُ ولا رأيته بعدُ إلا باسِمًا هَشًّا طلْق المحيا فى وجوه المسلمين، ساعيا فيما ينفعهم فى مَعاش أو مَعاد.
فقد أنشأ قرية جامعة، ووفّر لقاطنيها الماء الغدَق بكل آلاته وتجهيزاته، ابتغاء وجه الله عز وجل، وتولى عنهم مُؤنَه وكُلَفَه، وبنى بها مسجدا كبيرا، وأسس إلى جانبه محضرة لتحفيظ القرآن الكريم، تخرج فيها من لا يُحصَون كثرة من أبنائها، ومن الأفارقة المجاورين من أهل السنغال وغامبيا، الذين ما فتِئ يُحْضِرهم بنفسه من بلادهم إلى بيته وحاضرته ليعلِّمهم ويقومَ عليهم، ثم يعيدَهم إلى أهليهم وقد حفظوا القرآن، وتعلموا من الأحكام ما شاء الله أن يتعلموا، ثم يأتىَ بآخرين، وهكذا دوَاليْك، حتى لقى الله عز وجل.
وقد يَعْجَب بعض أهل العصر من رجل ليس بذى تجارة ولا وظيفة ولا مال ولا هو من أهل السياسة وطلب الرياسة، يتجشم الأهوال، على الكِبَر والمرض، وفى الصيف والشتاء، لا ليبنى دورا فاخرة تكنّه، أو يمتلك سيارات فارهة تُقِلُّه، أو يضمن مستقبله ـ كما يقولون، أو يكسب أنصارا وأتباعا بأمره يأتمرون.
ولكن ليوفر القرآن والصلاة والمُؤَن والشراب للمسلمين، ويسوق الطُّمَأنينة والراحة والرخاء إلى الجِيرة والأقربين والوافدين!
إن هذا الصنف من الخليقة يجهل أن هذه المساعىَ هى الضمان الحق للمستقبل المحتوم، وأنها هى رمز خلود الذكْر إلى يوم الوقت المعلوم.
حج الشيخ إسماعيل مِرارا كثيرة سبعا أو ثمانيًا، كانت أخراهنّ عام 1429هـ، وقد صحبته فى ثلاث منها على الأقل، فضلا عن العُمَر التى أداها فى رمضان وغيره، تقبل الله منه.
وقد كان ممن عرفتُهم بالعبادة وكثرة الذكر والنوافل والنسك والتقوى، وحفظ القرآن، واتباع الحق، وحب السنة، وطيب المجلس، وضبط الأخبار، وحسن سياقة الحديث، والتوازن فى المواقف والأقوال والأفعال.
وله، بحمد الله، ولَدانِ من أهل العلم والفضل والاستقامة على الكتاب والسنة. نسأل الله العلىّ القدير أن يجعلهما قرة عين للإسلام والمسلمين. إنه سميع مجيب.
ومن رأى مسكن الشيخ إسماعيل وفراشَه علم ما كان عليه من زهد فى هذه الدنيا الفانية، وأدرك أن ما كان يُتعِب فيه نفسَه، ويعمُر به وقتَه، إنما هو العمل للدار الباقية.
(ولا ينبئك مثل خبير).
(وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين). وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وعزاؤنا فى قول الله تعلى:
(ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما)، وفى قوله سبحانه:
(ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا)،
وفيما ثبت من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علمٍ يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له." أخرجه مسلم فى الصحيح بهذا اللفظ.
وقد اجتمعت هذه الثلاثة للشيخ إسماعيل، رحمه الله تعلى، وأدخله بحبوحة
الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وبارك فى بنيه وآله الأكرمين، ولا زالوا غُرّة فى العالَمين.
وعزاءً خاصا خالصا منى لرفيق دربه الكريم، وخِله الشهم الوفىّ الحميم السيد الفاضل ابن السادة الأماثل عبد الله بن سيد محمد بن دَيْحِى، الذى هو أولى بقول متمِّم بن نُوَيْرةَ فى رثاء أخيه مالك:
"وكنا كنَدْمَانَىْ جَذِيمة حقبةً/ من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأنِّى ومالكا/ لِطول اجتماع لم نبت ليلةً معـــــــــا."
أبو تلميت. / الجمعة: (16 جمادى الآخرة 1437هـ، 25 مارس 2016م).