استمعت بتمعن لكلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في افتتاح جلسات مؤتمر القمة الثالثة عشرة لمنظمة التعاون الإسلامي يوم أمس الخميس، وكان من أبرز ما لفتني فيها انتقاده لازدواجية معايير الدول الغربية في تعاملها مع العمليات والتنظيمات الإرهابية في العالم، وكذلك تشديده على دور التنمية والأمن والعدالة في بناء مستقبل دول وشعوب العالم الإسلامي، أما العبارة التي استوقفتني وتأملتها ملياً وكانت المحرك لتسطير هذا المقال فهي قوله: (علينا أن نحل مشكلاتنا بأنفسنا دون الحاجة لتدخل الغير)، فهل يمكن لهذا الطرح أن ينطبق على أسلوب تعاطينا مع الجماعات الدينية المسلحة المتهورة والمتذرعة بفهم متطرف مغلوط ملتبس لفقه الجهاد ؟!، ثم ماذا عن المحاولات الجادة لبعض دولنا العربية في تعقب قادة الإرهاب ومنظريه وضحاياه من مواطنيها من الشباب المتحمس المغرر به؟! وهل من تجارب واقعية معاصرة تصلح كنموذج ناجح لحل هذه المعضلة التي يقطف ثمرتها النهائية أعتى أعداء الأمة؟! حلول تتجاوز فكرة التركيز والاكتفاء فقط بمعالجات أمنية قاسية بات من المؤكد لدى المتخصصين والحكماء عدم كفايتها أو مناسبة مقالاتها لبعض المقامات لا مرحلياً ولا حتى على المدى البعيد.
وللإجابة عن هذه الجملة من التساؤلات تقفز أمام ناظرينا التجربة الموريتانية كواحدة من التجارب الرائدة الناجحة في معالجة هذا الملف الساخن الشائك، تلك التجربة التي تقوم على فكرة احتواء الشباب الجانح وتجنب استفزازهم، ناهيك عن اللجوء الى إيقاع العنف النفسي أو الجسدي عليهم، بل على العكس تماماً تعتمد فلسفة المعالجة على تفهم الحالات وإكرامها وتحقيق حاجاتها المادية وطمأنتها وتأميلها بغدٍ ومستقبل أفضل لها ولعوائلها، وغمرها بإحساس صادق بالأمان الاجتماعي بعيداً عن الوعود التكتيكية الخادعة لزوم التحقيق واستنطاق المعلومات!!
لقد تطرقت المعالجة الموريتانية إلى مبادرات فريدة ونوعية، على شاكلة قيام المسؤولين بالتواصل الشخصي الودود مع الشباب الجانح، وتبصيرهم وبإسلوب (أبوي) مباشر بالنتائج المرعبة والمعقدة المترتبة على حماقة متهورة غالباً لم يحسبوا حسابها.
فهذا أبو حفص الموريتاني مفتي «القاعدة» وأحد من رصد الأميركان لمن يرشدهم إليه جائزة بقيمة 25 مليون دولار كما فعلت مع أسامة بن لادن وابو غيث، وكان الرجل قد اختلف مع ابن لادن والظواهري على فكرة العمليات التفجيرية داخل الولايات المتحدة لعدة اعتبارات منها:
(أولاً) أن تلك العمليات افتئات على حكومة طالبان وتوريط لها بما لا تطيق، وقد رفض الملا عمر ذلك أيضاً وهذا افتئات سياسي.
(ثانياً) رفض مجلس شورى «القاعدة» لهذه العملية وأبو حفص الموريتاني عضو في المجلس.
(ثالثاً) رفض المجلس الشرعي الذي يضم النخب الفقهية لهذه العملية، فكيف وأبو حفص الموريتاني هو نفسه رئيس هذا المجلس.
(رابعاً) وأخيراً، لأن أحد مناطات التحريم استعداء العالم واعطاؤه الذرائع لحرب الإسلام والمسلمين بما تعجز الأمة عن صده، بل سيحولها مسرحاً للمصالح وتنفيذ أجندات لا تحلم بها.
فتجرأ أبو حفص على زعيميه بالمجاهرة لابن لادن والظواهري وقد خالف كل الاجماعات بالقول لهما: (أنتما لا سياسة ولا شرع ولا تنظيم)!! ثم انفصل عنهما ولجأ إلى سفارة بلده في إيران، وإذ اتصل السفير بالمسؤولين ليصل الخبر إلى الرئيس الموريتاني، الذي قام على فوره بالاتصال مباشرة بأبي حفص ليقول له مطمئناً: (أنت لم ترتكب جريمة في بلدك وليس عندنا قانون يدينك على نصرة المستضعفين وأنت مرحب بك في وطنك).
ثم لم يلبث أن رتب له كل إجراءات العودة فاستخرج له جواز سفر جديدا، ويسر له إجراءات نقله ورجوعه إلى موريتانيا، وفاجأه بأن كان أول مستقبليه لحظة وصوله أرض المطار وقال له: هذا رقمي الخاص فلا تتردد في طلب أي شيء في أي وقت.
والنتيجة أن أصبح أبو حفص اليوم وبعد كل تلك الحفاوة وحسن الاستقبال وجميل الرعاية وطيب المعاملة، أصبح واحداً من أهم أسباب تهدئة الشباب الموريتاني وتوجيههم للحكمة، وقد اتفق مع مركز الجزيرة للدراسات لإصدار مذكراته الشخصية في 1000 صفحة يوثق من خلالها تجربته الجهادية والسياسية.
لا أطالب كل المسؤولين ليكونوا كرئيس موريتانيا، وحتماً ليس كل مفتوني الجهاد الطائش على شاكلة أبو حفص، وإنما أدعو أصحاب القرار والأمنيين المعنيين والمشتغلين بعالم الأفكار والإرشاد والتأهيل أن يستفيدوا من التجربة الموريتانية.