منذ سنتين تقريبا و أنا أقول و أكرر من أعلى كل المنابر المتاحة بأن الرئيس لا و لن يترشح لمأمورية ثالثة بحسب ما يتراءى أمامي من أسباب موضوعية تجعله قادرا على مغادرة السلطة بمجرد انتهاء مأموريته، خلافا لبعض نظرائه الأفارقة الذين جاؤوا بانقلاب عسكري، و قضوا عشرات السنين في الحكم، راكموا خلال حكمهم من الجرائم و القتل و التدمير ما يمنعهم بتاتا من ترك السلطة طواعية.
و هؤلاء الرؤساء هم مَنْ رأيناهم يُقدمون على تغيير الدستور في بلدانهم سبيلا إلى الترشح لمأمورية ثالثة، و رابعة، و خامسة، إلخ...و مصيرهم معروف : من القصر إلى المنفى أو الأسر ! و قلتُ و كتبتُ أكثر من مرة بأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يختلف عن هؤلاء، رغم ما لصق بحكمه من فساد و نهب و سوء تسيير و محسوبية و انقلابية و فضائح...قل عنه ما شئت، إلاّ أنه حافظ على شيء مهم. حافظ على السلم و السلام و الأمن و الاستقرار في ظروف محلية و إقليمية و دولية بالغة الصعوبة. و في نهاية مأموريته الثانية، ها هو يلتزم باحترام الدستور و ترك السلطة ! لم يقترف جرائم حرب أو قتل.
و لم يمارس العنف أو القمع أو التعذيب على نطاق واسع ضد المعارضين. و لم يملأ السجون. و هي الأسباب التي في الغالب تجعل الحاشية تتمسك بالرئيس إلى آخر رمق، و تجعل الرئيس يتمسك بالسلطة حتى الموت أو المنفى. و من جراء هذا الموقف الذي يحتمل الخطأ قطعَا، تحمّلتُ ما لا يطاق من أراجيف و اتهامات، هنا و هناك، صراحة أو تلميحا، في العلن و على الخاص...من قـِبٓل بعض الإخوة و الأصدقاء في الموالاة و المعارضة. و أخشى ما أخشاه أن تزيدهم هذه الورقة غيظا و شططا. سامحهم الله.
أما الآن، و قد أعلن الرجل نيته مغادرة السلطة احتراما للدستور، فإني أتوكل على الله، و أقترح ما يلي :
1 - إنهاء الجدل العقيم و التجاذب السلبي في موضوع المأمورية الثالثة، و إغلاق ذلك الملف بشكل نهائي، و تجاوزه إلى ما هو أهم. لا نريد أن نسمع بعد اليوم من يطالب الرئيس بالبقاء و الاستمرار، كما لا نريد أن نسمع بعد اليوم من يكذب أو يشكك في نيته الخروج و ترك السلطة. أيّا كان موقفنا من ولد عبدالعزيز مواليا أو معارضا، ينبغي أن نترفع جميعا عن الخلافات الثانوية و الخصومات الجانبية و المصالح الحزبية الضيقة و القوالب الجامدة ، و أن نجعل موريتانيا و مصالحها و كرامة شعبها فوق كل اعتبار. المهم الآن هو النظر إلى المستقبل و إلى ما بعد الرئيس المنتهية ولايته.
2 - التركيز على الفترة المتبقية من مأمورية الرئيس بصفة كونها مرحلة انتقالية تختلف اختلافا جوهريا عن كل ما مضى من مراحل سياسية في البلاد، و تستدعي بالتالي ممارسات و مقاربات سياسية مختلفة. إنها مرحلة محفوفة بالمخاطر و الصعوبات، و تستوجب اليقظة من الجميع، و الحزم، و تعزيز الجبهة الداخلية في إطار معادلة جديدة قوامها: "الشرعية و الشراكة"، بمعنى الاعتراف بشرعية الرئيس و إشراك المعارضة في تسيير ما تبقّى من المأمورية. و لبلوغ ذلك، بنبغي للرئيس أن ينفض الغبار عن وجهه و يكون رئيسا لكل الموريتانيين، و ليس رئيسا لفئة أو حزب أو جماعة.
كما ينبغي للمعارضة أن تستشعر دورها و مكانتها كبديـل محتمل لرئيس البلاد
3 - استبدال المواجهة بالتشاور و التنسيق في هذه المرحلة الخاصة، و استبدال التصعيد بالتهدئة، و التصلب بالمرونة، و تقليل احتمالات التوتر و الاحتكاك الداخلي حفاظا على الأمن و الاستقرار. و لنا في التجربة المالية دروس كثيرة و عِبر.
مٓنْ منّا لا يتذكر كيف تعرضت الجمهورية المالية الشقيقة لحرب داخلية ضروس و اجتياح أراضيها و قلب نظام الحكم فيها ثلاثة أشهر فقط قبل موعد انتخابات رئاسية لم يكن الرئيس طرفا فيها ؟ إن الفراغ الناجم عن تطبيق الدستور و إعلان الرئيس عدم الترشح لخلافة نفسه، يفتح أبواب العودة إلى الوراء بقدر ما يفتح أبواب التقدم. نعم ! يفتح أبواب التراجع و النكوص بقدر ما يفتح أبواب الديمقراطية و التناوب.
و هذا لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع مواصلة الضغط و النضال السلميين للحفاظ على المكتسبات و فرض سلاسة المسار.
4 - فتح قنوات اتصال بين السلطة و المعارضة عموما، و خاصة بينها و بين المنتدى و مؤسسة زعيم المعارضة الديمقراطية بغية التشاور الهادئ و المسؤول و تبادل الآراء بعيدا عن الأنظار لتحديد ملامح الحوار المنشود. ما هو جدول أعماله ؟ من هم المشاركون فيه ؟ ما هو موعد افتتاحه ؟ و ما هي مدّته ؟ و في أي إطار ينتظم ؟ و كيف تكون تغطيته الإعلامية ؟ و كيف يكون اتخاذ قراراته و خلاصاته ؟ إلخ... قد لا تحسم هذه الأمور جملة و تفصيلا قبل الحوار، و لكن يجب أن تُثار و أن يحصل بشأنها توافق و تراضي مبدئي، في الحد الأدنى الذي يسمح للحوار أن يلتئم.
5 - إجراء حوار جاد و مسؤول بناء على ما توصلت إليه المشاورات المغلقة .
و بحسب رأيي المتواضع، يجب أن يكون الحوار المرتقب على شكل "طاولة مستديرة" تشارك فيها الأحزاب السياسية، و الاتحادات النقابية ، و منظمات المجتمع المدني ذات المصداقية، و الهيئات الشبابية و النسائية الوازنة، بواقع ثلاثة ممثلين من الصف الأول عن كل هيئة. كما يجب أن تكون إدارة الجلسات و الأشغال بالتناوب بين الأقطاب، و العلاقة بالإعلام موحّدة. و بخصوص المضمون، نتطلع إلى الخروج باتفاق على آليات جديدة تضمن سلامة اللعبة السياسية و تعيد الثقة في العمليات الانتخابية.
6 - العمل على بلورة اتفاق يقضي بإجراء انتخابات بلدية و برلمانية سابقة لأوانها و انتخابات رئاسية في موعدها تحظى بثقة و مشاركة الجميع. و يمرّ ذلك حتما بمراجعة الآليات القانونية و الإدارية القائمة في ضوء ما يتفق عليه الأطراف المشاركة في الحوار.
و نعني بالآليات كل الهيئات و المؤسسات ذات الصلة بالعملية السياسية و الانتخابية : الحكومة و خاصة وزارات الداخلية و العدل و الاعلام، و الإدارة الإقليمية، و المجلس الدستوري، و المحكمة العليا، و اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات...
7 - تناول القضايا الوطنية الكبرى المتصلة بموضوع الوحدة المجتمعية و التنوع العرقي و الفئوي و ملفات حقوق الإنسان، و الخروج من طاولة الحوار بخارطة طريق متفق عليها تكون بمثابة "عقد اجتماعي" جديد يلتزم به الجميع كمرجعية أساسية و جامعة نستند إليها كلنا في العمل و التفكير. و قد يتطلب البت في تلك القضايا الجوهرية و المصيرية من التأني و الجهد و البحث ما يستدعي ابتكار آليات تنظيمية و أطر عمل يستمر من خلالها التبادل و النقاش المستفيض بعد انتهاء المهلة المخصصة للحوار الحالي.
و الله ولي التوفيق و التسديد، و هو المستعان
محمد فال ولد بلاّل