شكلت الثورة الرقمية، في مجال المعلومات والاتصالات، تحولا كبيرا في حياة الدول والشعوب، شملت كافة نواحي الحياة العلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياحية، فكانت لها إسهاماتها الواضحة في مجال التواصل بين الأفراد والمجموعات، والتسيير والتعليم والإعلام والنقل والطب والصناعة والزراعة، فقربت المسافات وادخرت الزمن وسهلت الولوج المتزامن للمعلومات عن بعد.
وهكذا وعى القائمون على الشأن العام في هذه البلاد أهمية الاستفادة مما توفره الثورة الرقمية، فعملوا مبكرا على ربط موريتانيا بالشبكة االعنكبوتية في عام 1996، مما سمح بفتح الباب واسعا أمام دخول شركات الاتصال الدولية إلى فضاء الاتصالات في موريتانيا سنة 1999م، الذي ظل حكرا، منذ الاستقلال عن المستعمر الفرنسي، على شركة البريد والاتصالات، حيث لم يتجاوز عدد زبناء خدمة الهاتف أكثر من 18000 زبون طيلة أربعين سنة من عمر دولة الاستقلال، مما أعطى انطباعا أوليا عن ضعف سوق الاتصالات الموريتانية وعدم جدوائية الاستثمار فيها.
ومن أجل تطوير هذا القطاع الحيوي، تم منح أولى، سنة 1999م ، رخصة عمل، لشركة موريتل، ذات رأس مال مختلط: 46 % مملوكة من طرف شركة الاتصالات المغربية و3% للعمال و40.5% تعود ملكيتها للدولة الموريتانية، وكادت الدولة أن تملك الأغلبية رأس مالها لو أنها قبلت شراكة مؤسسة عبد الله ولد نويكط، التي تمتلك 10.5%، كما مُنحت ثاني رخصة،عام 2001م، لشركة "ماتل" التونسية.
وسرعان ما مكن عمل الشركتين(موريتل وماتل)، ولمدة سنوات قليلة، من اكتشاف أهمية سوق الاتصالات في موريتانيا، بفعل الانتشار السريع للهواتف المحمولة بين المواطنين وكثرة مستخدمي الشيكة العنكبوتية(الانترنت)، مما شجع الدولة على منح رخصة ثالثة لشركة شنقيتل السودانية سنة 2006م.
وقد بلغ عدد اشتراكات الهاتف المحمول، حتى الآن، أربعة ملايين وهو رقم كبير إذا ما قسناه بعدد ساكنة هذه البلاد، الذي لا يتجاوز 4 ملايين نسمة.
وهكذا يمكن القول أن الهاتف النقال أصبح يشكل جزءا هاما من اهتمامات سكان موريتانيا، ومن ضمن أولويات مواطنيها، كل ينفق عليه من سعته، رغم الارتفاع المذهل في سعر دقيقة الهاتف المحمول، التي تصل اليوم 70 أوقية للمكالمة المحلية، في حين كان سعر الساعة المحلية سابقا لا يتجاوز 30 أوقية.
ورغم الخدمات المهمة التي توفرها هذه الشركات، إلا أن ملاحظات كثيرة ما زالت تثار حول مدى احترامها لدفاتر التزاماتها الموقعة مع الدولة، فبعد مرور 15 سنة على عملها لم تستطع تغطية كافة التراب الوطني، فما تزال مناطق كثيرة خارج خدمة شبكة الاتصالات، مما يحرم ساكنة تلك المناطق من خدماتها، كما أن ذلك الفراغ اضطر أحيانا بعض الفاعلين إلى اللجوء إلى شركات اتصال دولية،غالية الأسعار، لملئه (مثلا VSAT)، وتقدر نسبة تغطيتها ب 65% فقط، يضاف إلى ذلك رداءة خدمات شبكة الانترنت والهاتف النقال ، حيث غدت الزيادات المتكررة عبئا على جودة خدمات الاتصال الهاتفية والنكبوتية، نتيجة كثرة الزبناء والضغط المتزايد على الهوائيات، فهناك تناسب عكسي بين الزيادات والجودة، حيث صارت تلك الهوائيات مشبعة باستمرار، خصوصا فيما يخص الاتصال عبر الانترنت.
كما أن غلاء أسعار خدمات شركات الاتصال، أنهك كاهل المواطن وزاد من أعباء تكاليف حياته اليومية، بعدما أصبحت تلك الخدمات جزءا منها، ويمثل هذا الغلاء استنزافا للثروة الوطنية من أموال وعملات أجنبية، خصوصا أن غالبية رؤوس الأموال المنشئة لهذه الشركات أجنبية.
ولم تعد هذه الشركات مشجعا لامتصاص البطالة، حيث سرح بعضها، خلال العشرية الأخيرة، الكثير من اليد العاملة الوطنية واستبدلها بعمالة أجنبية، مما كان له وقع سلبي على التشغيل وعلى زيادة نسبة البطالة، وهنا يجدر التنويه بالإجراءات الإدارية المتخذة هذه الأيام، من أجل مرتنة وظائف موريتل، لكن تلك الإجراءات ستتطلب وقتا أطول، بفعل تغاضي الدولة، طوال السنوات الماضية، عن تسريح كثير من الموظفين الموريتانيين.
ويؤخذ على هذه الشركات العملاقة عدم توفير جزء من عائداتها المالية الضخمة للتخفيف من معاناة فقراء هذه البلاد، فباستثناء محاولة شركة شنقيتل الخجولة لإفطار بعض الصائمين في شهر رمضان، تظل البقية غائبة عن مجال توفير الخدمات الإنسانية للمحتاجين في مجال الغذاء والصحة والتعليم..
ويرى البعض أن سلطة تنظيم الاتصالات لا تقوم بالمهام الموكلة إليها في مجال تنظيم ورقابة هذه الشركات، من أجل إلزامها باحترام تعهداتها، وتكتفي بدل ذلك بجباية أموال كثيرة من هذه الشركات، يتبخر معظمها بفعل إتباع طرق صرف غير معهودة لها أصلا، كما علم من تقرير مديرها السابق محمد محمد يحي ولد حرمه.
ومع انتهاء فترة صلاحية الرخص الممنوحة لشركتي موريتل وماتل، يتطلع الكثير من مواطني موريتانيا إلى فرض شروط جديدة وملزمة لهذه الشركات من أجل تخفيف أسعار خدماتها والتحسين من جودة شيكات الانترنت وتعميم خدماتها على كافة التراب الوطني ورفع نسبة رأس المال الوطني وإعطاء الأولوية للعمالة الوطنية ومرتنة الوظائف الفنية والإدارية والمساهمة بجدية في الرفع من معاناة الضعفاء وذوي الاحتياجات، من خلال إنشاء صندوق خاص للرعاية الاجتماعية.