ها أني أخيرا في توليدو الأسبانية، أو قُل في طليطلة وفق اسمها العربي وتاريخها الاسلامي. كل شيء هنا يقول للزائر انك في بلاد شيَّدها المسلمون والعرب والامازيع يوما ما وسكنوها 8 قرون وكانوا سبب نهضتها الفكرية والعمرانية والثقافية ،وهنا خسروا أخر معاركهم فيها . كل شيء يقول للزائر أيضا ، انهم يا سيدي ، اي المسلمون والعرب والامازيغ لا يزالون منذ القرن الرابع عشر يبكون على الاطلال ويندبون تاريخهم . لعلهم بذلك يبررون حاضرهم الخاوي .
وفي هذه التوليدو الجميلة أيها القاريء العزيز، تستقبلك زخرفات البناء لحظة ترجلك من القطار في المحطة وفي البيت المجاور لها. تقول لك ، اني مغاربية الاصل والنقش والتاريخ والهندسة ، وفي الحيطان وبين الحجارة ذكرى اولئك الذين جاءوا مع قائد عسكري من المغرب يغزون بلادا غارقة بتناحر قادتها وخارجة من ظلمات غزوات وهمجية محتلين آخرين .
أسم القائد طارق بن زياد، لا يزال المؤرخون العرب والمسلمون يا سيدي القاريء، مختلفين عليه حتى اليوم، هل كان قائدا عسكريا بربريا ( أمازيغيا) في الدولة الأموية؟ أم أنه عربي قح ؟ الحقيقة الأرجح تؤكد بأنه بربري عمل قائدا عسكريا عند قادته الامويين، والرواية غير المؤكدة تقول انه حين اجتاز البحر ليصل الى اسبانيا أحرق مراكبه خشية عودة العرب على أعقابهم فيها لانعدام الثقة به، فكسب ثقتهم. حتى الفتح اذا فيه شكوك بأصله العربي.
دعنا من الأصول ولنر الواقع . ينطلق بنا القطار من مدريد. سرعان ما يتسلل بين أشجار الزيتون الممتدة على مئات الكليومترات. أتذكَّر الآن لماذا كان يقال لنا في مدارس الراهبات ان هذا الزيتون اسباني اذا جيد . تبدو الأشجار أنيقة منسَّقة كشعر رأسٍ مصففٍ بأتقان. تُطَّل بين فينة وأخرى بيوتٌ صغيرة قرميدية السطوح توحي للناظر اليها بأنها انقطعت منذ زمن بعيد عن ضوضاء البشر وسخافاتهم لتهنأ هنا بين أشجار الزيتون. تكثر السهول وتقل البيوت موحية بأن البلاد لا تزال قادرة على استيعاب ملايين المهاجرين الذي يقصدون أوروبا هربا من فقر الجنوب فيموت بعضهم بالبحر غرقا او بالذل قرفا ويأسا.
لا داعي لليأس يا سيدي القاريء، فالرحلة جميلة وعندنا من الجراح ما يكفي لنكئها حين نعود الى بلاد الاقتتال والخلافة والارهاب والفتن عندنا. وعلى ذكر الخلافة، فهنا أيضا كانت خلافة ، وهنا أيضا سبق اقامةَ الخلافة مذابحُ وهلعٌ وتشريد للناس، والآ فكيف استطاع اخونا طارق بن زياد أن يصل الى هنا ويحتل كل هذه الجبال والوديان والأنهر وكل ما يدب على الأرض بأقل من 7000 مقاتل معظمهم من الأمازيغ . الفارق الوحيد ربما أنه في حينه لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي جاهزة، ولم تكن آلة تشويه الاسلام ، اولا من أهله وثانيا من الآخرين، جاهزة ، ثم كان الفاتحون آنذاك، أو لنقل بعضهم ، يتمتعون بحسن الروية وسعة الأفق وحشرية المعرف والنقل من الثقافات اليونانية والفارسية وغيرها ما جعلهم يحولون بلاد البرابرة والاجتياحات الاوروبية الى عواصم ثقافة ونور . هذا حصل في توليدو وحصل في غرناطة وقرطبة وغيرها .
يعبر القطار بين مدريد وتوليدو سريعا، يبدو سعيدا مثل راكبيه بالسماء شبه الصافية. تكاد تكون صافية لولا بضع غيمات تُطل بين حين وآخر لتذكِّر الركاب بأننا في عز الشتاء . تعكس الشمسُ ظلالَ أعمدة الكهرباء وبعضِ الشجر على نوافذ القطار. تمر الظلال كأنها تغسل القطار من الأيام الماطرة أولعلها تمسح عنه عرق الرحلات المتكررة كل يوم .
لا تكاد تمضي 40دقيقة حتى نصل الى توليدو. باص السياح ينتظرنا. لا يوجد عربي غيري في القطار والباص. أعود سائحا لاكتشف مكانا كان فيه لأجدادنا فضل بنائه بعد احتلاله. لا ادري ايهما أُقدِّم على الأخرى في تفكيري، الاحتلال البغيض أم البناء الذي لحسن حظ ساكنيه حاليا أن العرب والمسلمين والامازيغ تركوه لأهله.
يجب أن نتصالح مع أنفسنا ، لا يمكن أن نبكي على أرض كنا نحتلها، وفي الوقت عينه نبكي على دولنا حين احتُلت. الاحتلال هو الاحتلال ، لا يختلف غزو طارق بن زياد لهذه الآرض التي ليست أرضه عن غزو الفرنسيين للجزائر .
لا شيء في الشكل الخارجي لتوليدو يوحي بالغرب ، كأنك يا سيدي القاريء في مدينة مغربية، هذا قصر هنا يعتلي التلة، قرميده اخضر بني . وهذه قلعة تحمي البيوت القرميدية النازلة من قمة الجبل الى حفافي النهر الآزرق. يتعرج النهر النظيف الشفاف بين الهضاب والأكمَّة والتلال والجبال. تحار ماذا تصوِّر. تريد ان تحتفظ آلة التصوير بكل حجر وشجرة وقطرة ماء ونبضة قلب وحنين وكل ضحكة ودمعة في أرض كانت يوما للعرب والمسلمين. هذه قلعة اخرى لا تزال تحتفظ بأسمها العربي " التاج " تيمنا بنهر "تاجو" او " تاخو " عند اقدامها . لا يعرف الكثير من السكان هنا ولا السياح أن الكثير من الكلمات في بلادهم أصلها عربي .
تؤكد المؤرخة الأسبانية تيريزا بيريز أن 4000 كلمة لا تزال أثارها حاضرة في اللغة والحضارة والثقافة الاسبانية. لو أردت سُكرا مثلا لقهوتك ما عليك سوى ان تقول للنادل " الثُكر لو سمحت " ولو أردت زيتونا اضافيا على مائدتك فقل " الثيتونة " . لا غرابة ان تسمع حروفا أقرب للعربية في اللغة الاسبانية منها للاجنبية كالخاء والثاء . ولا غرابة ان ترى الناس هنا ترحب وتضحك وتسأل وتمزح تماما كبعض العرب خلافا للكثير من الشعوب الاوروبية.
بين القلاع بقايا اسطبلات عتيقة لم يبق منها سوى بعض الحجر فوق الحجر. كأنها شواهد على زمن عبر . يسرح خيالك صوب اولئك الفرسان الذين اجتازوا البحر مع طارق بن زياد وبتسهيل من أحد الامراء الاسبان هنا المختلف على العرش مع امراء آخرين. تكاد تراهم واصلين لتوهم بعد معارك لم تكن في معظمها صعبة بل كانت خاطفة وسريعة وعنيفة ودموية. كانت خاطفة لان سمعة الغزاة سبقتهم فرمت الهلع في قلوب السكان. ( أيُذكَّركُم الأمرُ بشيء ؟؟ هه )
توليدو نفسها لم تصمد سوى أيام قليلة. وها هي الآن تحفظ من جمال البناء العربي القديم والتراث الاسلامي في حجارة بيوتها وأشكال بنائها وهندسة العمارة الكثير . تماما كما تحفظ بعض العادات والحرف كمثل صناعة السيوف والخناجر والسكاكين، لا بل قد لا تفاجأ لو رأيت حانوتا لبيع الخناجر والسيوف لا يزال يحمل اسما دمشقيا او نقشا عربيا او فارسيا.
يحضرني أحمد شوقي بقصيدته التي يذكر فيها توليدو : " لولا دمشـــق لما كــــانت طليطلة ولا زهت ببني العباس بغدان " أحزن على دمشق التي يقف على أبوابها الغزاة من كل حدب وصوب .لعل بعضهم ذهب من اسبانيا نفسها في السنوات الثلاث الماضية. يبدو ان المسلمين سيتبادلون والغرب الغزوات طويلا .
أعبر بين القناطر وأبواب المدينة. لا يزال بعضها يحمل اسمه العربي بحروف لاتينية " KANTARA " ( اي القنطرة ) . انزل أدراج الزواريب والحواري بين المباني القديمة، تشبه في بعضها حي القصبة الجزائري الذي منه انطلقت الثورة المجيدة ضد المستعمر الفرنسي. أفكر بأن ثورة اخرى ضد المستعمر العربي الاسلامي ربما انطلقت أيضا من هنا. كم يشبه التاريخ نفسه، وكم ينتقم الحاضر من التاريخ والمستقبل من الحاضر في دورة اقتتال انسانية جهنمية وهمجية وغبية من أجل اللاشيء. اسير في المدينة القديمة، لا أجد اثرا في المحال ودور العبادة للتاريخ العربي الاسلامي سوى في بعض زخرفات الصحون او بعض اشكال السيوف، او بعض الاسماء التي توحي بما كانت عليه المدينة من نقطة تلاقي وتجارة . أضحك حين اقرا اسم Zocodover فهو يعني بالعربية " سوق الدواب " . لا داعي للتعليق. هه.
تختلط الاديان هنا، ففي هذه المدينة العريقة تآلف الاسلام والمسيحية والتوراة . وفيها كان لليهود مناصب ومكانة في عهد المسلمين . طُرد من المسلمين واليهود بعد 8 قرون كل من رفض اعتناق المسيحية . لم يبق الآن الكثير سوى الذكرى والحنين . قامت كنائس مكان المساجد، ولو قرأت شيئا عن المدينة فقد يمر المؤرخون سريعا على 8 قرون وكأنها لم تكن . وحدها بعض المخطوطات تؤكد ذاك الحضور تماما كما الشكل الخارجي للمدينة. أَصِل الى ما كان هنا مسجداً باسم " باب المردوم " ، يبدو انه ردم تماما، فهذا الذي كان يعتبر أحد أقدم الاثار والمعالم الاسلامية ويعود الى اكثر من الف عام صار كنيسة تمجد السيد المسيح ونوره . التاريخ لا يكتبه الا المنتصرون.
تشهد كل هذه البيوت والحواري والزواريب والحجر والشجر وعبق المكان ، بان العرب والمسلمين والامازيع كانوا يوما ما هنا. لا تزال بعض الموسيقى والآتها ترجع بعضا من الحان ذاك العبقربي القادم من بلاد فارس زرياب الذي طور العود واضاف اليه وتر " الروح " حتى صار ألأصل في آلة الغيتار الغربية. لكن المكان الآن ما عاد فيه للعرب والمسلمين سوى بعض ترجمات الشعر والآدب الحديثين في توليدو حيث بوشر بتنظيم مؤتمرات لذلك . وليس غريبا ان تجد هنا قصائد الشاعر الفلسطيني الفذ محمود درويش، ولكنك لن تجد مطلقا ايا من كمنجاته التي بكاها في قصيدته حول الاندلس " احد عشر كوكبا " .
بين ما قاله محمود درويش : " لم يبق مني / غير دِرعي القديمة،سَرج حصاني المذهَّب/ لم يبق مني غيرُ مخطوطةٍ لابن رشدٍ، وطوقِ الحمامة، والترجمات ......الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين الى الأندلس/ الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلس "
لا أدري لماذا لم اتعاطف مع بكاء درويش على اطلال الاندلس بالرغم من روعة ألأمكنة وعبق تاريخنا فيه. فالاحتلال هو احتلال، وتغنينا بخلافة الامس قد يشبه تغني البعض بخلافة اليوم . الأثنان اعتمدا السيف والنار والقتل، فلماذا نبكي على اطلال ليست لنا . فليهنأ اهل اسبانيا بما حافظوا عليه وطوروه .