«ما زالت الطريق طويلة»، قال جوليان أسانغ ضاحكا، «يجب علينا إحداث كيبل غيت (الاسم الذي أعطي للقضية الكبيرة لمراقبي وزارة الخارجية الأمريكية في «ويكيليكس») لكل دولة ومنظمة مركزية في العالم». وقد ظهر أسانغ في تلك المحادثة ببدلة، لكن بجرابين وبدون حذاء. كان ذلك شيئا غريبا، لكنه ليس قلة أدب، حيث تمت في نيسان 2011 في المكان الذي تواجد فيه تلك الاشهر في الاقامة الجبرية في نوربولاك، وهي منطقة ريفية نائية في شمال بريطانيا. وقد تحدث أسانغ بسرعة فائقة، واحيانا بطباعة سريعة على الحاسوب، حيث كانت بجانبه مساعدته المقربة سارة هاريس، التي كانت تخرج وتحضر مواد وزوار ومعلومات.
كان أسانغ في حينه في ذروة قوته. «ويكيليكس» زعزعت العالم بنشر مواد أمريكية سرية عن وزارة الخارجية، التي كانت ترأسها هيلاري كلينتون في حينه، بما في ذلك وثائق كثيرة بتوقيع كلينتون نفسها. ولكن تصريحات أسانغ بدأت تتراكم. وقد أعلنت الحكومة الأمريكية الحرب عليه بعد نشره أكبر الأسرار، وأشدها ضد كلينتون. وقد تنافس الأمريكيون فيما بينهم حول كبر ذنب أسانغ والاجراءات التي يجب اتخاذها ضده. وادعت شابة من السويد أن أسانغ قد اعتدى عليها جنسيا، وبدأت في اجراءات طلب تسليمه وتم وضعه في الاقامة الجبرية.
في ذلك اللقاء أعلن أسانغ أنه لا ينوي التوقف. يجب الاستمرار في هذا وزيادة التسريب. ولم نشاهد بعد الرسائل الداخلية لـ «سي.آي.ايه» والـ «ان.اس.آي» (وكالة الامن الداخلي في الولايات المتحدة) والموساد أو الاستخبارات الروسية أو جهات سياسية لها نفوذ كبير في هذه الدول. وعندما نفعل ذلك يمكننا القول بأننا قد حققنا شيئا. في ذلك اللقاء كشف أسانغ عن دوافعه: «أحب البصق في صحن الزعماء». وعندما سألته أي زعماء، أجاب: «هذا غير مهم، جميع الزعماء».
بعد ذلك بخمس سنوات ونصف ما زال أسانغ على صلة. وبعض تنبؤاته تحققت. «ويكيليكس» هي اليوم المصدر الاساسي في تسريب المعلومات لادوارد سنودان، المختص بالحواسيب والذي عمل في «اس.ان.آي»، حيث أن هذه هي الكارثة الاستخبارية الاكثر خطورة في تاريخ الولايات المتحدة. وفي نصف العام الاخير نشر أسانغ رسائل داخلية محرجة جدا عن جهة سياسية هامة في العالم وهي الحزب الديمقراطي الأمريكي. هذه الرسائل التي يمكن أن تؤثر على نتائج الانتخابات للرئاسة. وهو يقوم بفعل ذلك كما يتميز في فعل ذلك، تمهيد الارضية حول اعطاء الوعود عن قنبلة تنتظر في انبوب «ويكيليكس». وبعد ذلك نشر أجزاء متقطعة وإبقاء ما هو جيد للنهاية، ويقوم بتجويع وسائل الإعلام من اجل المزيد والمزيد من التسريبات.
وبخصوص أجزاء اخرى في نبوءته، مثلا أمله في الاستمرار في البصق في صحون الزعماء جميعا، وتسريب وثائق عن التجسس الروسي ـ هذا لم يحدث. وبعد عام ونصف من ذلك اللقاء صادقت المحكمة في بريطانيا على تسليمه للسويد. ولكن أسانغ هرب من الحكومة البريطانية إلى سفارة الاكوادور. ومنذ ذلك الحين وهو يعيش في غرفة صغيرة ويتم تقديم الخدمات له، معتقل في قلب لندن، دون القدرة على ترك المكان. وادعى أسانغ بأن الولايات المتحدة هي التي تقف وراء الشكوى وطلب تسليمه، وأنه إذا نجحت في تسليمه مجددا، هذه المرة لواشنطن، فهو سيحاكم هناك بمخالفات خطيرة ضد الامن القومي، وهو لن يرى ضوء الشمس كانسان حر.
أسانغ وجد نفسه وحيدا، وبحث كما يبدو عن حلفاء له في الكرملين. الادارة الأمريكية تتهم في هذه الاثناء جهازي أمن روسيين بشكل واضح لأنهما وقفا من وراء اقتحام حواسيب الحزب الديمقراطي: «نحن على يقين من أن الاقتحام منظم وتم من قبل جهات روسية رسمية»، قال رجل في الاستخبارات الأمريكية للصحيفة. واذا كان الاتهام صحيحا فإن «ويكيليكس» وأسانغ قد تحولا من حاملي الشعلة لحرية المعلومات والحرب من اجل الشفافية إلى انبوب تسريب خلفي لاجهزة الاستخبارات التابعة لبوتين والتي تعتمد عمليا على قدمى الـ «كي.جي.بي».
الحذر أفاتار
كان يمكن توقع ما هو أكثر من حواسيب الحزب الديمقراطي. الحديث هنا يدور عن جسم كبير له ميزانيات ضخمة وفي دولة متقدمة جدا من الناحية التكنولوجية. والامر الذي لا يقل أهمية هو أنه في السنوات الاخيرة أثبت مرة تلو الاخرى أن الجهات التي لديها قدرة على اختراق الحواسيب تحاول اقتحام، ليس فقط حواسيب وكالات التجسس ووزارات الحكومات، بل ايضا حواسيب جهات سياسية وتجارية. مثلا، اكتشف الخبراء جهات تتعلق بالاستخبارات الروسية قامت باختراق الحواسيب الحكومية والخاصة في الدول التي يوجد بينها وبين بوتين صراع، بما في ذلك تعطيل الانترنت في جورجيا اثناء الحرب مع روسيا والحاق الضرر بشبكة الحواسيب في اوكرانيا. جهات غير معروفة تعمل في الشبكات الاجتماعية بواسطة هويات مزورة، «أفاتاريين»، حاولت التأثير على الرأي العام في السويد، فيما يتعلق بموضوع الانضمام لحزب الناتو، مع نشر قصص كاذبة عن السلاح النووي الذي سيوضع على اراضيها. هناك مجموعتان، الاولى سميت «الدب الفاخر» والثانية سميت «الدب المُسلي». وقد نجحتا في اقتحام حواسيب البوندستاج أو البرلمان الالماني وعددا من الاحزاب المركزية فيه، وحواسيب جهات عسكرية في ايطاليا. وفي حالة اخرى، شركة «هاكينغ تيم» التي تقدم خدمات استخبارية لجهات خاصة وحكومية، التي تعرضت لضربة شديدة عندما تم اقتحام حواسيبها ونشر قائمة زبائنها ورسائلهم. ويبدو أن هذا جزء من الانتقام المهني. سوني فكتشارز تعرضت للانتقام عندما أرادت عرض فيلم «لقاء نهائي»، الذي تحدث بشكل سلبي عن زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. ايضا حواسيبها كانت مملوءة بالمعلومات المحرجة والتفاصيل التجارية السرية.
كان يجب على أحد ما من الحزب الديمقراطي أن يفهم أنه في كل حواسيب وفي كل بريد الكتروني لدى الجهات السياسية توجد مواد محرجة، أو مواد يمكن استغلالها ضد من يقوم بكتابة البريد الالكتروني. وأنه سيكون هناك شخص له قدرة واهتمام بسرقة هذه المواد. ولكن من كان يجب عليه الفهم لم يفهم. وفقط في أيار/مايو من هذا العام لاحظوا هناك الثغرة في البريد الالكتروني للحزب والسرقة الكبيرة للمواد. وتبين أنه يقف من وراء الاقتحام اولئك «الدببة» المخفيون الذين قاموا باقتحام حواسيب البوندستاج. «الدب المسلي» اقتحم كما يبدو حواسيب الحزب في صيف 2015. وقد كان نشاطه حذرا نسبيا وهادئا وأكثر مهنية. «الدب الفاخر» قام باقتحام الحواسيب في نيسان 2016، وكان نشاطه أكثر صلفا وأقل مهنية، وقام بنقل كبير للمواد، الامر الذي أثار الانتباه. وبشكل سريع أدى هذا الاختراق إلى التحقيق من قبل الـ «اف.بي.آي».
لكن الاكتشاف كان متأخرا. شخصية سمت نفسها «جوزيفر 2.0» انشأت موقعا عرفت نفسها فيه على أنها قرصان روماني وحيد، يعمل وحده بدافع الشفافية وحرية المعلومات. وقد ادعت هذه الشخصية أنها أخذت المواد من حواسيب الحزب الديمقراطي وأعطتها لـ «ويكيليكس». ولم يتحدث أسانغ إلى الآن عن مصدر معلوماته، لكنه بدأ بنشرها. وفي مقابلة له مع التلفزيون البريطاني في 12 حزيران/يونيو قال أسانغ إنه يأمل بأن نشر الرسائل الالكترونية للحزب الديمقراطي «سيضر فرص كلينتون بالانتصار في الانتخابات». وأكد على أنه ينوي نشر الرسائل الالكترونية قريبا من موعد عقد مؤتمر الحزب الديمقراطي.
لقد نجح أسانغ في الاضرار بكلينتون. الموجة الاولى من الرسائل الالكترونية، قبل المؤتمر، شملت أدلة على أن جهاز الحزب لم يكن محايدا في الانتخابات الداخلية، وأنه ساعد كلينتون وحاول الاضرار بفرص بارني ساندرز في الانتخاب. رئيسة اللجنة المركزية للحزب، ديبي فسرمان شولتس، رئيسة اللجنة، اضطرت إلى الاستقالة ومعها عدد من الشخصيات الرفيعة. وفي الموجات التي تلت تم الكشف عن تفاصيل محرجة عن المتبرعين الكثيرين لكلينتون، ومحاضرات مدفوعة الأجر، علاقات مع «وول ستريت»، ملاحظات مسيئة من ناشطيها ضد الكنيسة وغيرها.
الموجة الاخيرة من المنشورات كان من المفروض أن تتسبب بالضرر الاكبر، هذا ما اعتقدوه في هيئة ترامب. في 2 تشرين الاول/أكتوبر غرد أحدهم، روجر ستون، بأنه في يوم الاربعاء القادم (5 تشرين الاول) سيُقضى على هيلاري من قبل «ويكيليكس». وبالفعل، بعد بضعة ايام حررت «ويكيليكس» الرسائل الالكترونية التي تم الحصول عليها في اقتحام حاسوب جون بوديستا، رئيس الحملة الانتخابية لكلينتون، والتي تبين منها أن جزءا من الرسائل الالكترونية المشفرة التي احتفظت بها كلينتون في حقلها الخاص بطريقة غير مشروعة، وتم الادعاء أنها اختفت، هذا الجزء كان عمليا في أيدي أحد التابعين لها. اتهام آخر سماه ترامب «أخطر من ووترغيت»، وهو أن أحد الناشطين في هيئتها اقترح صفقة على الـ «اف.بي.آي». المحققة الفيدرالية تعلن أن جزءا من الوثائق التي حفظت في خانة الرسائل الخاصة التي فتحتها كلينتون، لم يكن مصنفا، أي، إزالة التصنيف. وبهذا تبرئتها من تهمة الاحتفاظ بمواد مصنفة في خانة غير محمية. وفي المقابل، ستُمكن وزارة الخارجية من ارسال رجال التحقيق الفيدرالي إلى العراق.
الحزب الديمقراطي ينفي الاتهامات ويدعي أن الحديث يدور عن انتقاء مما كتب هناك. جميع المحللين في الولايات المتحدة يؤكدون على أنه لولا تورط ترامب في فضيحة الفيلم من 2005، وسلسلة الاتهامات من قبل نساء، بالتحرش الجنسي، لكانت تسريبات «ويكيليكس» اليوم تقف في مركز برنامج العمل اليومي للانتخابات الأمريكية. ويمكن ايضا أنها كانت ستحسم النتيجة.
وريث الـ «كي.جي.بي»
حقيقة أن ستون عرف مسبقا ماذا ومتى ستنشر «ويكيليكس»، تؤكد وجود التنسيق، أو على الاقل الصلة، بين هيئة ترامب وبين الجهات والاجهزة التي تقوم بالتسريب. المتهم الاول هو الرجل من الكرملين. بعد فترة قصيرة من بدء النشر زعمت بعض الشركات والاستخبارات أنه من المحتمل وقوف الاستخبارات الروسية من وراء الثغرة وتسريب المعلومات لـ ويكيليكس. وحسب تحليل الشركات، فإن «الدب المسلي» هو اسم تمويه للاستخبارات الداخلية الروسية، الذي أقيم بدل الفرع الثاني لـ «كي.جي.بي». و»الدب الفاخر» هو تغطية على الاستخبارات العسكرية الروسية. تستند التهمة إلى ايجاد اللغة الروسية في الرمز السري لأدوات الاقتحام التي استخدمتها المجموعتين، وفي موقع وحدات السيطرة في شرق اوروبا، والمعلومات التي تم جمعها في اعقاب اقتحام حواسيب البرلمان الالماني وغيرها. الفرضية هي أن تجسس روسيا لم يكن لينفذ اعمالا كهذه دون إذن واضح من الرئيس بوتين.
في اعلان استثنائي، انضمت الاستخبارات الأمريكية إلى الاتهامات ضد روسيا. «لدينا مواد استخبارية كثيرة تشير إلى موقع القراصنة. ولكن لا يمكننا الكشف عنها»، هذا ما قاله لي في يوم الاربعاء أحد رجال الاستخبارات الأمريكية الذي تحدثت معه. «نحن متأكدون من هوية المقتحمين بنفس القدر الذي فيه أدلة مصدرها في عالم الاستخبارات الالكتروني».
عندما سألت المصدر الاستخباري عن كيفية وصول المواد إلى ويكيليكس، أجاب بنفي معرفته. وأشار فقط إلى وجود صلة بين أسانغ والروس. ولم يسبق أن قام أسانغ بالهجوم على روسيا أو بوتين، رغم أن هذه دولة ديكتاتورية تخل بحقوق الانسان، وكان من المفروض أن تكون هدفا مفضلا. «هو الذي وعد بنشر وثائق سرية عن بوتين، تحول إلى صديق الأمة الروسية»، قال المصدر الاستخباري. «لقد حصل على استضافة في التلفاز في القناة الانجليزية التي تمثل الكرملين، ونجح في الحصول على مقابلة سكايب مع نصر الله. كيف يمكن حدوث شيء كهذا بدون وساطة الاستخبارات الروسية؟.
اذا كان جواسيس الحواسيب لبوتين هم الذين يقفون وراء الثغرة أو الاقتحام ـ سواء من اجل ضعضعة ثقة الجمهور الأمريكي في الانتخابات أو من اجل انتخاب ترامب، فهذه مرحلة جديدة في الحرب الباردة بين الدول العظمى. واذا تم انتخاب كلينتون فهي لن تنسى ولن تغفر.
رونين برغمان
يديعوت 21/10/2016