الانقلابات الأخيرة في المنطقة العربية -المنجز منها وما هو بصدد الإنجاز- عنوان خطير جدا من عناوين وعينا السياسي بأنفسنا اليوم أمةً عربية تسعى حثيثة إلى إعادة تأسيس كيانها السياسي كوحدة مستقلة ذات سيادة.
عودة المنوال الانقلابي اليوم وعودة الخطاب المبرر له والمشجع عليه مؤشرات مرعبة عن قابلية الأمة لمنوالات في التغيير السياسي خلْناها انقرضت منذ العقود الأخيرة من القرن الماضي.
ليس المشكل في الانقلاب نفسه لأن العالم العربي سليل طبيعي للانقلابات العسكرية منذ نشأته، لكن الخطورة تكمن في ما يمنعه الانقلاب - باعتباره شكلا سياسيا قسريا- من شروط الحرية والتحرر، في زمن يعمق الهوة بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة ويهدد هذه الأخيرة ببلوغ نقطة اللاعودة.
وليست مؤشرات الهجمة الاستعمارية في المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة ومنذ الحرب الاستعمارية الأولى على العراق في بداية التسعينيات إلا مؤشرا خطيرا على عودة الاستعمار إلى المنطقة بشكل ثلاثي لأول مرة في التاريخ أولا عن طريق شركات النهب الموجودة على الأرض من جبهة أولى، وعن طريق قواته العسكرية القادمة لمقاومة الإرهاب ونشر الديمقراطية على نهج أبو غريب من جبهة ثانية، ثم عن طريق وكلاء الداخل وهي الجبهة الأخطر التي يمثلها العسكر ودوائر النخب المزيفة المحيطة به من إعلاميين ورجال أعمال وفنانين....
أهداف الانقلابات
انقلابات العسكر ومغامرات ضباطه لا تستهدف الإسلاميين تيارا سياسيا وصل إلى السلطة في مصر مثلا عبر صناديق الاقتراع - باعتبارها التعبير المباشر عن الشكل الديمقراطي للحكم- مثلما يقر بذلك كل الملاحظين الموضوعيين من خارج المنطقة العربية. وهي لا تستهدف التشكيلات المحافظة في تونس وليبيا وسوريا داخل المنطقة العربية أو تركيا من خارج المنطقة العربية مثلما يروج لذلك الكثيرون حتى من المحافظين أنفسهم. هي انقلابات لا تستهدف أي طرف سياسي كان مثلما يسعى الإعلام الانقلابي وأبواق الثورة المضادة في الداخل والخارج إلى إيهامنا به.
بل هي انقلابات هدفها الثابت والمتحرك هو التجربة نفسها مهما كان الخارج من صناديق الانتخاب. هدفها منع أي إنجاز نحو التغيير الحقيقي في المنطقة العربية قد يهدد مصالح الشركات والبنوك العالمية العملاقة ومصانع الأسلحة ومخابر الأدوية التي تمثل المتحكم الفعلي في مصير الأمم والشعوب في منطقتنا وخارجها. إذا كان الإسلاميون هم الهدف المصرح به لانقلابات العسكر فإن المسكوت عنه في مغامرات ضباط المدارس الأمريكية هو منع العرب من بلوغ شكل حر في التعبير السياسي يسمح بتجاوز حالة الموت السريري الذي كانت عليه الأمة قبل انفجار 17 ديسمبر المجيد سنة 2010. حرية الإنسان العربي في الاختيار السياسي ثم الوعي الناجم عن هذه الحرية وما يمكن له أن يؤسس عليها وبها هو الهدف المركزي لمغامرات العسكر في المزارع العربية الممتدة من العراق إلى موريتانيا.
تاريخ من الانقلابات
مصطلح العسكر في هذا المقال وفي الخطاب الإعلامي العام اليوم يغطي مرجعيا كبرى الدوائر الانقلابية في المؤسسات العسكرية وفرق الموت الخاصة ببعض الجيوش، كتلك التي تقصف الشيوخ والنساء والأطفال بالبراميل اليومية في سوريا أو جيرانها من الفيالق الطائفية في العراق أو كتائب القذافي التي جلبها لاغتصاب الحرائر في ليبيا أو قناصة بن علي المشهورين أو أولئك الذين أحرقوا المصريين أحياء بالآلاف في ميادين مصر.
فهو بذلك لا يشمل الوطنيين من أبناء المؤسسة العسكرية العربية وجنودها ممن سينفضون عنهم يوما ما هذا الغبار السام، مثلما فعلت مؤسسات عسكرية أخرى في تركيا والأرجنتين والتشيلي وغيرها من الدول التي اكتوت طويلا بنيران الانقلابات. التسمية تغطي التحالف الرباعي العسكري السياسي الأمني والمالي وهو الذي اختطف المؤسسة العسكرية العربية لصالح قوى وشركات أجنبية ضد إرادة أمته ورغبتها في التحرر.
الثابت تاريخيا أن الجيوش الرسمية العربية لم تحقق نصرا واحدا - حقيقيا ودون صفقة السادات مع كامب ديفيد - منذ إنشائها، وإنما جاءت في أغلب تجاربها وخاصة الأنظمة العسكرية ذات النزعة القومية - في ليبيا مع القذافي وفي مصر مع عبد الناصر وفي سوريا مع الأسد الأب والابن وفي يمن عبد الله صالح وعراق صدام حسين - لمنع كل تغيير سياسي مدني. التجارب تتفاوت بطبيعة الحال من خلال الرصيد الرمزي لكل واحدة من الشخصيات السابقة وبحسب معدل جنون العظمة عندها، لكن النتيجة واحدة وهي حالة الخراب التي نعيش اليوم على أطلاله في ليبيا ومصر والعراق وسوريا واليمن وتونس والجزائر وباقي الدول العربية. هي جيوش لم تنتصر إلا على شعوبها لأنها لا تحمل في أصل نشأتها شروط النصر ولأنها خلقت لغير وظيفتها الحقيقية وأنشئت لغايات أخرى بعيدة عن النصر والتحرير.
ثلاثة استثناءات كبرى تقريبا تسم التجارب العسكرية عند العرب في التاريخ الحديث؛ الأولى، كانت سنة 1985 عندما تنازل عبد الرحمان سوار الذهب عن السلطة وسلمها لحكومة منتخبة بعد عام من وصوله إليها في السودان. أما الثانية فتخص "علي ولد محمد فال" الذي وصل إلى السلطة في صيف 2005 مزيحا نظام معاوية ولد الطايع الفاسد وسلم السلطة بعد عامين من الفترة الانتقالية كما وعد في موريتانيا .أما الثالثة فتخص المؤسسة العسكرية التونسية التي لم تنقلب على الثورة التونسية وما زالت الآن تدفع ثمن ذلك من خيرة أبنائها الذين يسقطون إلى اليوم برصاص الثورة المضادة ومخابرات بن علي.
خلافا لهذه الاستثناءات القليلة فليس تاريخ العرب الحديث إلا سلسلة متتابعة من الانقلابات والمؤامرات العسكرية المزينة بالثورة في انقلاب عبد الناصر سنة 1952، وبالحركات التصحيحية في تاريخ البعث الدموي في العراق وسوريا، ثم انقلاب الفاتح من سبتمبر على الملك السنوسي في ليبيا، وانقلاب بن علي على العجوز بورقيبة - وقد سماه التحول المبارك - ثم انقلاب عسكر الجزائر على الانتخابات الديمقراطية وتدشين واحدة من أحلك الفترات الدموية في تاريخ الجزائر الحديث.
الانقلاب بوابة الاستبداد
ظهور العسكر خلال الربيع لعربي كان كاشفا للدور الخفي الذي كان لهذه المؤسسة في صناعة القرار السياسي في الدول العربية، حيث ذهب بعضهم - عن صواب نظر - إلى أن نجاح الربيع العربي أو فشله إنما حدده موقف العسكر من التغيير وطبيعة المؤسسة العسكرية في كل بلد ووظيفتها. فمن غير الموضوعي تحليليا الجمع في مصطلح العسكر بين كل الجيوش العربية التي تباينت مواقفها كثيرا خلال الربيع الأخير، حتى اعتبر عدد كبير من المحللين أن نجاح الثورة التونسية إنما يعود إلى وقوف الجيش في صف الثوار في مواجهة قوات الشرطة وهو ما لم يحدث في الثورتين المصرية والسورية. وهو موقف موضوعي نسبيا، لكنه لا يقول كل الحقيقة عن طبيعة الجيش التونسي وعن بنيته الداخلية منذ "الاستقلال" حتى هروب بن علي.
اللافت الأهم والحادث الأبرز في كل ما حدث منذ الانفجار الكبير في تونس ليس المنجز المباشر للربيع العربي كما كان ينتظره الحالمون، أو ما يوهم به الإعلام الرسمي من فشل الربيع لأنه لم يجلب شيئا غير الدمار والموت. لكن ما عرته الثورات العربية وكشفته هو أبرز وأهم إنجاز على الأرض لأنه سيحدد - بفضل ما سيدخله على الوعي العربي من تعديلات وظيفية - طبيعة الحركة القادمة ونوعها في المسار العام للأمة من أجل الخروج من التخلف ونيل الحرية والكرامة.
جوهر الوعي العربي العام اليوم هو إدراك تام وجلي أن سبب كل مصائبنا هو الاستبداد السياسي ومخلفاته الكارثية وأن مدخل الاستبداد وحارسه الأمين هو الانقلابات العسكرية متحالفة مع الدولة الأمنية و أنسجة الدوائر السابحة في فلكها.
شبكة التحالفات
نجح العسكر على مدى عقود - هي عمر ما سمي زورا بدولة الاستقلال - في تطويع مختلف المجالات والقطاعات المادية والرمزية للدولة وإرسائها لخدمة المشروع الاستبدادي العسكري والجنرالات الساهرين عليه وعائلاتهم. فتحول الاقتصاد بشكل كامل إلى ريع عسكري كما هو الحال في مصر وسوريا والجزائر، وأنتج تحالف رأس المال بالعسكر شبكات عميقة للفساد والتهريب والمضاربة والاحتكار مما أوصل الأوضاع الاقتصادية في هذه البلدان إلى حالة الاختناق.
رهنت هذه السياسة أيضا الدول العربية لصالح الشركات الأجنبية التي سيطرت على قطاعات حيوية داخل هذه الدول، كقطاع الطاقة والمناجم والصحة والتعليم والبناء وغيرها من القطاعات السيادية، وتحول الجيش من ضامن لسيادة الدولة إلى ساهر على تخريبها عبر صفقات تسليح خيالية مع الخارج وقمع رهيب لكل قوى التحرر في الداخل. فليست عمليات القتل والتعذيب والحرق والاغتصاب والتنكيل التي نراها اليوم في سوريا ومصر ورأينا أهوالها في الجزائر خلال التسعينيات من القرن الماضي إلا الجرم الأصغر من جرائم العسكر في الوطن العربي.
طوعت هذه المؤسسة إذن كل القطاعات الرمزية لصالحها وعلى رأسها قطاع الإعلام الحساس الذي أصبح جزءا مركزيا في الدعوة إلى الانقلاب والتشريع له، مثلما كان الأمر في مصر البارحة أو في تخدير الشعوب وتغييبها عبر مزاعم أيديولوجية أثبت الربيع زيفها كأكذوبة المقاومة والممانعة في سوريا والتي تخفي واحدا من أبشع الأنظمة الإجرامية الطائفية في التاريخ القديم والحديث. الأخطر اليوم هو تحول العقيدة العسكرية من مهامها السيادية في حماية الحدود وتحرير الأرض المحتلة وحماية الأمن القومي من التهديد الخارجي إلى "مقاومة الإرهاب" حسب التعريف الأمريكي بطبيعة الحال ومقاومة الجماعات المقاتلة والتي خرجت أغلبها من أقبية المخابرات العربية بأوامر أمريكية عليا.
إن تحييد المؤسسة العسكرية العربية اليوم وخروجها من دائرة الفعل السياسي والولاء الأجنبي وعودتها إلى ثكناتها من أجل الوظائف العليا التي لها في حماية حدود الوطن وتحرير الأرض المغتصبة، هو الضامن الوحيد لعبور هذا النفق المظلم الذي تمر به الأمة منذ منتصف القرن الماضي.