وبموقعها الجيغرافي، كانت "تامورت" كيمي نقطة تجمع سكاني كثيف وملتقى طرق مهم. عندها تلتقي القوافل القادمة من ادرار و المتجهة صوب شمامة، ومن تكانت و لعصابه الى اترارزه . وبهذا الموقع الاستراتيجي نالت مكانتها الأمنيّة والاقتصاديّة والعلميّة واشعاعها الثقافي : محاظر كيمي قد بلغت ما بلغت من الجلال والكمال على غرار محظرة جدّي محمد فال (فالِ) ولد حامد ولد بلاّل رحمه الله، وكذا علماؤها وشعراؤها من أمثال القاضي والعلامة الجليل محمد لمهابه ولد الطالب اميجن، القائل :
بسقط اللوى من لمّ عود عهود °°°° على مثلها العين الجمود تجود
وأخرى بكيمي غير الدهر أيها °°°° وفي القلب أي من هواها جديد
لا تكاد منطقة فى كَيمي تخلو من أثر يشهدُ على عظمة تاريخها وعلوّ مقامها. وهكذا، تُعرفُ منطقة شرق "التّامورت" بأنها "البقيع الثانى"، بالنظر لما تحويه مقبرتها "تيدْرٓتْ الأنوار"من أضرحة تعود لأولياء وعلماء وصالحين من جميع العشائر والجهات. واسمحوا لي أنْ أذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، جَدّي محمد الفقيه الملقب محمد بلاّل رحمه الله، الذي تحدث الباحث سيدات ولد باب الأبييري مطوّلا عن فضله وصلاحه وكراماته في كتابه: "تحرير الأدِلّة على شرف إدكَجْملّه"، وبجواره يرقدُ الولي الكامل الشيخ أحمد سالم رحمه الله... أمّا المنطقة الغربية، فإنّ بها مقبرة "علبْ الرّحمة" التي تحتضنُ أضرحة جدّي محمد فال (فالِ) وأمّي (لم السّالمه) وأمّها (ينَّه)، ووالدها (ألمينْ)، رحم الله الجميع. وغير بعيد عنهم يوجد ضريح الشيخ الصالح محمد المختار ولد كبد، رئيس العشيرة. ومن الناحيّة الشمالية الشرقية يكتمل "مُثَلّثُ البركات" بمقبرة "التّوْميّات" وصاحبها الوليّ الصالح ذو المناقب الجمّة سيدي محمد ولد الشيخ ولد امّني رحمه الله... أسأل الله العلي القدير أن يغفر لهم جميعا ويرحمهم، وأنْ يُوفّقني لأنْ أدفن معهم في "علب الرّحمة" أو "تيدرتْ الأنوار" (أيسرهما) قبل أن يجمعنا في الفردوس الأعلى من الجنّة مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
ويحيط بمنطقة كَيمي من كل الجهات قلاع من العلم والمعرفة ومدارس صوفيّة ومنابر ومحاظر لتخريج الكفاءات العلميّة المؤهلة في علوم الشريعة واللغة والشعر والأدب. وأستحضر هنا أنّ محظرة جدنا فالِ كانت ترتبط ارتباطا وثيقا بمحاظر ومجامع علميّة مجاورة مثل محظرة " آكَرجْ"، ومحظرة أهل ولد محمد الأمين في آفطوط، ومحظرة أهل أحمد الهادي باتجاه لعكَيْلات والواد الأبيض، ومحظرة أوّاه ولد الطالب إبراهيم . وقد تشرفتُ شخصيا بلقاء علماء ورموز من هذه المدارس؛ أذكر منهم الشيخ محمد المصطفى ولد الشيخ أبي المعالي ومحمد شيخنا ولد محمد الأمين والقاضي سيد أحمد ولد أحمد الهادي (ششد)، رحم الله الجميع. كما تشرفت بمقابلة فضيلة الشيخ أوّاه ولد عبد الرحمن ولد الطالب ابراهيم حفظه الله. وأخصّ بالذكر هنا محظرة أهل الطالب ابراهيم التي أخذ منها والدي الطيب الإجازة في القرآن الكريم. وقد استنكف والده (فالِ) عن منحه الإجازة ورعاً واستحياءً، وأرسلهُ إلى محظرة لمرابط أوّاه ولد الطالب ابراهيم، رحمه الله.
وبالإضافة إلى الدّور الرّوحي والعلمي المتميّز الذي اضطلعت به كَيمي، فإنّ لها كذلك مكانة رياديّة وحيويّة في السياسة العامّة. ويحضُرُني هنا ما كنتُ أسمعه عن مواقف مشرّفة للأمير لبّات ولد احميّاده في وجه الغزو الفرنسي وانخراط العديد من شخصيّات كَيمي في المقاومة المسلحة في غورغول وتكانت وآدرار والساقية الحمراء،،، وكفاح الشّهيد "محمد ولد امسَيْكه" الذي جعل من كَيمي قاعدةً حصينة لشنّ هجماته القاتلة ضد الادارة الاستعماريّة وعملائها. ويتناول كتابي هذا الموضوع بشيء من التفصيل خاصّة فيما يتعلّق بمشاركة بعض مشاهير كَيمي في معركة "ميْتْ" (لعقيْلات) ضد الفرنسيّين وملحمة "انيملان" (تكانت)، إلخ...إنّ قوة المقاومة بشقّيها المسلح والمدني في المنطقة فرضت على المستعمر التعامل مع كَيمي بشيء من الانتقائيّة والاحترام. وهكذا، حصلت المنطقة على أوّل نقطة صحيّة ثابتة يقيمها المستعمر في الأرياف الشمالية لولاية "لبراكنه"، وهو المستوصف المعروف ب"أدويرت كيمي"... غزفةٌ واحدةٌ صغيرة الحجم، ولكنها كبيرة المعنى. فهي عبارة عن مبنى إداري تنطلق منه الحملات الصحية في كل الاتجاهات : أرياف تكانت وآدرار ولبراكنه...وكان وكلاء الإدارة و أعوانها من حرّاس و جنود كلما وجدوا مريضا في مكان ما في المنطقة أرغموه على التوجه نحو "أدويرت كيمي". و هنا أتذكر كيف حملوني قهرا مع أخي وزميلي محمد محمود ولد أعليّات لأداء السنّة ( الخِتان) بطريقة طبيّة حديثة على يد ممرض اسمه "اتييكرا" من أصول ماليّة. وقد أثار ذلك غضب جدّتي مريم الملقّبة ميّ السلفيّة المجاهدة التي ظلّت ترفض وتعارض كل "محدثة" سواء تعلّق الأمر بحلاقة أو علاج أو ساعة أو إذاعة أو سيّارة أو بالأحرى مدرسة !؟، إلخ...
وبالإضافة إلى الخدمات الطبيّة، فإن "ادْوَيْرت كَيمي" كانتْ ساحة للتجمّع و"الحٓصْرَاتْ" و "الاحتفالات"... كلّما أرادت العشائر أن تستقبل الحاكم أو الوالي الفرنسي، أو كان هذا الأخير يريد مخاطبة الناس في موضوع "الحسْبَة" أو الضّرائب على وجه الخصوص...باختصار، إنّها العاصمة بمعايير اليوم !؟ تنصبُ في ساحتها الخيام الجميلة وتُعقد "جلسة الاجتهاد" التي تجمع الشيوخ والإدارة لمناقشة المشاريع السنوية المبرمجة في المنطقة. ويحضرها قادة عظام وعمالقة كرام، من أمثال: عبد الله ولد كبد، الشيخ أحمد أبي المعالي، لبّات ولد احميّاده، شيْنّه ولد أحمد عبد، سيدنا ولد سيد أعمر، محمد ولد حمّادي، ديّاهي ولد محمد الرّاظي، المان ولد الكيحل، محمد سالم ولد الحوْلي، محمد ولد انُّو، إلخ... وقد حضرها محمد الامام التركزي قبل أن يغادر المنطقة باتجاه غرب إفريقا ويستقرّ بالسينغال. وتجدر الإشارة إلى أنّ بناء "ادويْرتْ كيمي" جاء نتيجة مفاوضات مع الادارة الفرنسية، وكان الأمير لبّات ولد احميّاده رحمه الله، هو من يتقدّم المشهد وصاحب اليد الطّولى في الحصول عليه.
تلكم كانتْ "تامورت" كيمي... ناعمة، أخّاذة، فتّانة، خلاّبة، وسيمة، متألقة، خضراء... قبل أنْ تعْتٓدي عليها يدُ الإنسان، وتدمّر ما بها من حجر وشجر. كانَ ذلك في منتصف القرن الماضي عندما بدأ التقري والبحث عن الحطب للبناء، و جاءت سنوات الجفاف المتتالية وما رافقها من تحوّلات مناخيّة رهيبة غيّرت وجه المنطقة برمتها ...كادت كيمي أن تختفي لولا أنْ كتب اللهُ لَهَا البقاء كرمز للحياة، و جزء من التراث المشترك لمئات الآلاف من سكان لبراكنه. ولا يفوتني هنا أنْ أتقدّم بتحيّة إجلال وتقدير لؤلائك الرجال والنّساء الذين تحمّلوا عبء البقاء في كَيمي ومشقّة الصمود في وجه القحط والعطش لتعمير المكان وحمايته. وفي هذا الصدد، تعود بي الذاكرة إلى ما بذله المرحوم "لبشير ولد امعيّيف"من جهود مضنيّة لحماية البئة والدفاع عن الغطاء النباتي في "تامورتْ" كَيمي.
(يتواصل بإذن الله).