الجزائر اليوم تشبه مصر قبل سنتين عندما بُعث فيها رجل ادّعى انه ضابط توصل إلى اختراع لعلاج الأيدز والكبد الفيروسي، فسُمِّيَ «لواء الكفتة».
كانت المصيبة في مصر أعظم لأن الجيش تبنى الرجل واختار الكشف عن «الاختراع» في مؤتمر عام حضره رئيس الدولة آنذاك عدلي منصور والقائد الأعلى للقوات المسلحة (رئيس الجمهورية لاحقا، عبد الفتاح السيسي).
الموعد هذه المرة في الجزائر مع رجل ادّعى أنه اكتشف علاجا لمرض السكري، فأيقظ آمال أربعة ملايين جزائري مصابين بالداء. الفرق عن «لواء الكفتة» أن رئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع الجزائريتين لم تتبنيّا «مخترع» علاج السكري. لكن وزارة الصحة فتحت له أبوابها وتركته يتسلل إلى دواليبها لينال شرعية كان بحاجة إليها. كما أن عددا غير قليل من الصحافيين والمذيعين رفعوه فوق الرؤوس واحتفوا به، فمنحوه شعبية (سوقا) كان بأشد الحاجة إليها. ثم اتضح أنه مجرد دجال كذبَ على طول الطريق.
ذروة كذبه اعدعائه أنه خريج كلية الطب بجامعة جنيف بسويسرا (تخصص طب طوارئ)، وفي الحقيقة لم تطأ قدماه الجامعة المذكورة على الإطلاق. من مجرد «نكتة» تتسلى بها وسائل الإعلام والمجتمع، تحول هذا «الاختراع» إلى فضيحة هزت أركان الدولة وكشفت درجة الرداءة وحجم التفكك الذي أصابها. وإلا كيف ينصب دجّال على دولة بكامل مؤسساتها ووزاراتها ومختبراتها، ويصنع ثم يسوّق «دواء» مجهولا كان يمكن أن يقتل الناس؟
لا يجب أن نستغرب سهولة النصب على وزارة الصحة، فهي صورة لمؤسسات الدولة التي أصابها الوهن ففقدت تحصيناتها.
وما لا يقل خطورة، كيف تتبنى مؤسسات إعلامية، بينها تلفزيون «الشروق»، هذا الدجال وتعتبره كنزا قوميا، فتروّج لـ»اختراعه» بقوة، ثم تدافع عنه أمام كل منتقديه، بل وتدعو إلى حمايته؟
هنا أيضا لا يجب أن نستغرب هذا التصرف من «الشروق» كمؤسسة إعلامية، لأن من أبرز ما تشتهر بها انجذابها العجيب نحو هذا النوع من الناس من مشعوذين معالجين بالرقية والأعشاب وغيرهما!
«الشروق» هي التي روّجت قبل سنوات لدجال آخر اسمه «بلحمر» فأدخلته بيوت الجزائريين وحوّلته إلى أسطورة طبية.. يزوره كبار المسؤولين (عامة الناس احتاجوا للمرور عبر «الشروق» للظفر بموعد معه)، ويرافق الفريق الوطني لكرة القدم في حله وترحاله بداعي رقية اللاعبين. بعد سنوات من المجد والشهرة الخارقة، انتهى «بلحمر» في السجن بسبب اتهامات بالعبث باستعمالات الأدوية والعلاج. لكنه خرج من السجن بقدرة قادر بعد فترة وجيزة، وقبل ايام تردد أنه فتح عيادة خاصة به!
غير أن المشكلة ليست في الدولة وحدها، بل في مجتمع غرق في الجهل ويبدو مستمتعا بذلك، يبدي قابلية غير مفهومة لمن هبّ ودبّ من باعة الأوهام والأكاذيب، ويشتري منهم كل شيء.
أول ما أوقع المجتمع في الفخ كان اسم «الاختراع». لقد استوعب ذلك الدجال أن المجتمع جاهز للاستسلام للروحانيات واللاهوتيات، فقرر أن يدغدغ عواطف الناس بإطلاق اسم «رحمة ربي» على «اختراعه». وكانت الاستجابة مذهلة.
ثم نغوص درجة أخرى في الوحل عندما اختار الدعاة وباعة الفتاوى الدينية الصمت أمام هذا الاستغلال الفاحش لـ»رحمة ربي» والمتاجرة بها. هؤلاء الذين لم يتركوا شيئا لم يفتوا فيه، غاب علمهم وربطت ألسنتهم هذه المرة كأن أمراً فوقيا بالصمت وصلهم جميعا.
المناظرة التي نظمها تلفزيون الشروق بين «المخترع» وعميد الأطباء الجزائريين، كشفت حجم مأساتنا، وكانت نموذجا للجدل العقيم بين العقل واللاعقل، بين العلم ونقيضه. بين الحياء والاحترام، ونقيضهما. كان حريا بعميد الأطباء الجزائريين أن يتذكر مقول الإمام الشافعي «ما جادلت جاهلا إلا غلبني» وينسحب أبكر من تلك المناظرة احتراما للعلم ولمئات آلاف الأطباء الذين يمثلهم.
في تلك المناظرة صاح «المخترع» في وجه عميد الأطباء بأنه «ركّع السكري» وبأن العالم كله ينظر إليه وسط تصفيق هائل من الجمهور الحاضر كأنها مباراة كرة قدم. في تلك المناظرة تجلى ـ مرة أخرى ـ استعداد المجتمع ليكون ضحية «فرحة» لذلك الدجال.
الآن وقد وصلت المهزلة مداها وسحبت الحكومة «رحمة ربي» من الاسواق، لا بد من ساعة حساب: لا بد من مقاضاة هذا «المخترع»، ومعه الذين فتحوا له أبواب وزارة الصحة وسوّقوه في الدوائر الرسمية. لا بد من مقاضاة الصحافيين والمذيعين الذين كانوا شركاء في جريمة بيع الوهم لأربعة ملايين مصاب بالسكري في الجزائر (بعض صحافيي ومذيعي «الشروق» تصرفوا كشركاء في «الاختراع»). لا بد من مساءلة أجهزة الرقابة التي فاتها انتشار «رحمة ربي» للاستهلاك العام في غفلة منها. لا بد من محاسبة كل من كانت له مسؤولية في هذه الفضيحة.
ولا بد من طرح سؤال كبير آن أوان مواجهته: لماذا نزل المجتمع الجزائري إلى هذا الدرك السحيق من الدروشة؟ مَن ينقذ الجزائريين من جهلهم؟
وجدت مصر صعوبة كبيرة في تجاوز فضيحة «لواء الكفتة»، وسيعجز المجتمع الجزائر طويلا عن درء هذه الفضيحة، ورد تهمة افتتانه بالجهلة والمشعوذين والدجالين.
توفيق رباحي - كاتب صحافي جزائري