لم أزل - مُذْ ميزتُ الأشياء - وأنا أسمع لدى طوائف من المتحدثين - علماء ومثقفين - كلما الجأهُم المقام إلى التحدث بضمير المتكلم: "أنا" يتبعونه بقولهم: "وأعوذ بالله من أنا"، فنشأ لدي من ذلك اعتقاد بأن التحدث بهذا الضمير مَنْهِيٌّ عنه شرعا، الا بهذه اللازمة، دون أن أتبين الأمر، فصرت أتجنبه دائما، وقد وجدت نفسي تعاف هذا التعوذ في سياق الكلام..
مرة، وأنا "أتَعَوَّذ" مساء، تنبهتُ لقول النبي صلى الله عليه وسلم، في سيد الاستغفار الثابت عنه: "وأنا عَبْدُكَ"، وفِي لحظة التفكير تلك، تذكرتُ أيضا قوله: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" فعرفتُ من فوري أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يقول "أنا" دون استعاذة منها، وفِي قول أنا دون الاستعاذة منها شيء..
ثم بدأت التحري عن حالات قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم "أنا" فوجدتُ منها الكثير في صحاح السنة، ومنه مثالا، لا حصرا: "إنَّ اتقاكم وأعلمكم بالله أنا"، من حديث في صحيح البخاري، "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" وهو من حديث في صحيح مسلم، "أنا فرطكم على الحوض" متفق عليه، إضافة إلى مافي سيد الاستغفار، وفِي قوله: "أنا النبي لا كذب.."..
ثم تنبهتُ إلى أن الله تبارك وتعالى كَلَّمَ نبيه وكليمَه موسى عليه السلام في كتابه العزيز، بضمير المتكلم "أنا"، فقال جل شأنه في سورة طه: <<فَلَمَّا أَتِيهَا نُودِي يَامُوسِي إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوي وأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِع لِمَا يُوحِي إنِّنِي أَنَا الله لَا إِلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي>>، وفِي سورة النمل: <<يَامُوسِي إنَّه أَنَا الله العَزِزُ الحَكِيمُ>>، وفِي سورة القصص: <<..إِنِّي أَنَا الله رَبُّ العَالَمِين>>..
فحصل قِبَلِي من مجموع هذا أنه لا شيء في التحدث بضمير المتكلم "أنا"، وأنه لا أصل للازمة الإستعاذة عقب كل تلفظ بهذا الضمير..
عرضتُ استنتاجي هذا على أحد أجاويد طلبة العلم من الأصدقاء، ممن أطارحهم مثل هذه المسائل، فتوقف في الرد عليَّ حتى يبحث المسألة، بعد أن قال إنه يذكرُ لـ ابن القَيِّم رحمه الله كلاما في الموضوع قال فيه إن "أنا" قالها إبليس عليه لعنة الله معاندا لربه: "أنا خَيْرٌ منه"، وقالها فرعون مستكبرا في الأرض: "أنا ربكم الأعلى"..
ولاحقا أفادني ببحث منشور وَجَدَه في المسألة، يذهب إلى ما ذهبتُ إليه، واستفدتُ منه أن مردَّ تحرج الناس من هذا الضمير، واستعاذتهم بالله منه عند كل حديث به، قد يكون راجع إلى مافي حديث الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققتُ الباب، فقال: من ذَا، فقلتُ: أنا، فقال: أنا أنا، كأنه كرهها"، والجواب عن هذا، أن هذه الكراهة المُحتملة إنما هي في حال مخصوص، وهو الإستئذان، ووجهها واضح، لأن هذا الضمير وحده لا يسمح للمُستَأذَن عليه بمعرفة المستأذِن..
وحاصلُ الأمر - دون تطويل أكثر من هذا - أن الحرج من قول: "أنا" قد ارتفع عني أنا، حتى اطلع على ما يَرُدُّ عليَّ هذا الاستنتاج، والعلم عند الله..