بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
ـ الحلقة الثالثة:
ـ جمع الشيخ سَيِّدى محمد حَرْفا ـ وهو طرَف الجبل ـ تشبيها للناقة الضامرة الصُّلبة به ـ على حِرَف، بكسر الحاء، وفتح الراء؛ وذلك فى قوله:
(يا مُعْمِلين قِلاصا حاكت الحِرَفا / سارت وصارت لها أنواعُه حِرَفا)
فأنشِدت القطعة التى أولها هذا البيت، بحضرة الشاعر الخنذيد محمَّدّه بنِ محَمْدِى العلوىّ، فاستغرب هذا الجمع، ولم ينكره، لكن نقل بعض الوشاة إلى الشاعر أنه نسبه فيه إلى اللحن. فكتب أبياتا يدافع فيها عن هذا الجمع، محيلا على القاموس.
فردّ عليه ابن محمْدِى، وأدى ذلك إلى مساجلات، فى قصة معروفة، حسمها الشيخ سيدى بكلمته الشهيرة، وختمها ابن محمدى باعتذاريته الفريدة.
وبما أنه ليس من شأننا، فى هذه الحلقات، ذكرُ الأقاصيص الشعبية، ولا روايةُ الأشعار والمساجلات، فإننا لن نقف عند تلك الحادثة بأكثرَ من هذه الإشارة؛ إذ كان همنا الأصلىّ، ودافعنا الأول، فى الذى نكتبه هنا، هو التحقيق العلمىّ الجادّ، والتحلى بالتجرد والإنصاف، بحثا عن الصواب فى الأحرف الخمسة التى نسب فيها الشاعر إلى اللحن، أو الإتيان بما ليس فى القاموس، على أقلّ تقدير!!!
فنقول: هل يجمع حَرْفُ الجبل على حِرَف؟
والجواب أنه قد نقل هذا الجمعَ الفرّاءُ، ونص عليه فى العباب، والقاموس المحيط، وتاج العروس، ولكن لا نظير له فى اللغة، إلا طِلَلٌ فى جمع طَلّ.
فمن هنا كان نادرا مستغرَبا.
قال فى القاموس المحيط: "الحَرْفُ من كلِّ شىءٍ: طَرَفُهُ، وشَفيرُهُ وحَدُّهُ،
ومن الجَبَلِ: أَعْلاهُ المُحَدَّدُ، ج: كعِنَبٍ، ولا نظيرَ له سِوَى طَلٍّ وطِلَلٍ". (حرف).
وقال الإمام الشيخ محمد مرتضى الزَّبِيدىّ، فى تاج العروس، عند هذا الموضع: "قَالَ الفَرَّاءُ: ج حَرْفِ الجَبَلِ: حِرَفٌ، كعِنَبٍ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ سِوَى طَلٍّ وطِلَلٍ، قَالَ: وَلم يُسْمَعٍ غَيْرُهما، كَمَا فِى العُبَابِ، قَالَ شيخُنا: أَى: وإِن كَانَ الحَرْفُ غيرَ مُضَاعَفٍ". اهـ (حرف).
وإلى هذا الإشارةُ بقول الشيخ سَيِّدى محمد ــ مدافعا:
"حرْفُ الكُدَى لا سِواه جمعُه حِرفٌ / وِزانُه عِنبٌ، والجمع قد عُرفا
ثانيه طَلٌّ، ولم يُجمع على فِعَل / فَعْلٌ سِوى ذَين قد كانا به اتصفـــا".
فكلام الشاعر ـــ تبعا للّغويين ـــ صريحٌ فى أن هذا الجمع خاص بالحرْف الذى هو أعلى الجبل، أو طرَفُه، أو ما نتأ فى جنبه كهيئة الدكان الصغير أو نحوه، حسب عبارات علماء اللغة فى تفسير المراد بحرف الجبل الذى تُشبّه به الناقة الضامرة الصلبة، فى أشعار العرب، غالبا.
وقد اشتهر هذا التشبيه، وكثر على ألسنة الشعراء، حتى صار إطلاق الحرْف على طرَف الجبل مما لا يكاد يعرفه إلا اللغويون.
قال الجوهرىّ فى صحاحه:
"حرف كل شئ: طرَفه، وشَفيرُهُ، وحَدُّهُ. ومنه: حَرْفُ الجبل، وهو أعلاه المُحَدَّدُ...والحَرْفُ: الناقةُ الضامرة الصلبة، شبهت بحرف الجبل. قال الشاعر:
جُماليّة حَرف سِناد يشُلّها/ وظيفٌ أزجُّ الخَطْو ظمآنُ سَهْوَقُ". اهـ
وهذا التشبيه هو الذى قصده صاحبنا بقوله:
(يا معمِلين قلاصا حاكت الحِرَفا) .
وفى العباب: "...تشبيها لها بحرف السيف، أى حده. زاد الزمخشرىّ: فى هُزالها، ومضائها فى السير". انظر التاج: (حرف).
وفى المخصص أيضا: "ابْن جنّى: ناقةٌ حَرْفٌ: نَجِيبَةٌ، ماضِيَةٌ، شُبِّهَت بِحَرْفِ السَّيْف فِى مضائه، وَقد تقدَّم أَنَّهَا المهزولة". اهـ من (نعوت الإبل فى سيرها ورياضتها وذلتها).
قوله: وقد تقدم أنها المهزولة: أى على رأى، وكأنّ أصله ما حكاه الأصمعىّ، كما يؤخذ من كلام صاحب التاج: (حرف). والله أعلم.
ويؤيده ما فى كتاب الإبل للأصمعىّ:
"ويقال: ناقة حرف: إذا كانت قد يبِست وهُزلت". اهـ (ص:103، تح: حاتم الضامن).
وفى اللسان أيضا: هى النجيبة الماضية التى أنضتها الأسفار، شبِّهت بحرف السيف فى مضائها، ونجائها، ودِقتها. اهـ (حرف).
وما قاله الجوهرىّ دقيق جدا، فقد جمع للناقة ــ إذا وُصِفت بأنها حرف ــ بين وصفى الصلابة والضُّمْر، وهما وصفان قد يجتمعان، إذ كانا غير متناقضين، فى حين ذهب بعض اللغويين إما إلى هذا، وإما إلى ذاك، حتى حكى بعضهم أن الحرف من الأضداد.
انظر ما حكاه ابن سيده فى المخصص، حيث قال:
"أَبُو عبيد: الُحْرجُوج والَحرَج: الناقةُ الضامِرُ، وَقد تقدَّم أَنَّهَا الطويلةُ على وَجْه الأَرْض، والحَرْف مثلهَا، شُبِّهَت بحرفْ الجبَل.
ابْن السّكيت: أحْرفْتُ ناقَتِى: هَزَلتها، وَمِنْه قيل للناقة المَهْزُولة: حَرْف؛ وَمِنْه: حَرفت الشىءَ عَن وَجهه.
صَاحب الْعين: هِىَ النَّجِيبة الَّتِى قد أنْضاها السَّفَرُ، وَقيل: هِىَ الصُّلْبة. وَأنْشد:
(جُمَالِيَّة حَرْفٌ سِنَادٌ يَشُلُّها/ وَظِيفٌ أزَجُّ الخَطْوِ رَيَّانُ سَهْوَقُ)
قَالَ: فَلَو كَانَ الحَرْف مهزُولاً لم يَصِفْها بِأَنَّهَا جُمَالِيَّة سِنَاد، وَلَا أَن وَظِيفها ريَّانُ". اهـ من (باب نعوت الإبل فى قلة لحومها).
وفى اللسان لابن منظور، بعد أن نقل هذا الكلام بلفظه: "وَهَذَا الْبَيْتُ يَنْقُضُ تَفْسِيرَ مَنْ قَالَ: نَاقَةٌ حَرْفٌ: أَى مَهْزُولَةٌ، شُبِّهَتْ بِحَرْفِ كِتَابَةٍ، لِدِقَّتِهَا وهُزالها؛ وَرُوِىَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنه قَالَ: الحرْف النَّاقَةُ الضَّامِرَةُ، وَقَالَ الأَصمعىّ: الحرْفُ النَّاقَةُ الْمَهْزُولَةُ؛
قَالَ الأَزهرىّ: قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ فِى تَفْسِيرِ قَوْل كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
حَرْفٌ أَخُوها أَبوها مِن مُهَجَّنةٍ، ... وعَمُّها خالُها قَوْداء شِمْلِيلُ
قَالَ: يَصِفُ النَّاقَةَ بالحَرْفِ، لأَنها ضامِرٌ، وتُشَبَّهُ بالحَرْف مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهُوَ الأَلف، لدِقَّتِها؛
وَتُشَبَّهُ بحَرْف الْجَبَلِ إِذَا وُصِفَتْ بالعِظَمِ. وأَحْرَفْتُ نَاقَتِى إِذَا هَزَلْتَها؛
قَالَ ابْنُ الأَعرابىّ: وَلَا يُقَالُ جملٌ حَرْف، إِنَّمَا تُخَصّ بِهِ الناقةُ".اهـ
قلت: لكن رُوى: (...أزجّ الخطو ظمآن سهْوقُ). فعلى هذه الرواية يقوَى قصد الضُّمْر، وهو لا ينافى الصلابة، كما تقدم.
ويبدو من هذا النص أن الحرف له إطلاقان فى هذا المقام: فإذا أريد وصف الناقة بالضمر والهزال، فوصفت بأنها حرف ــ انصرف المعنى إلى تشبيهها بحرف الهجاء فى الدقة، وخصوصا الألف، وإذا أريد وصفها بالعظم والشدة، فقيل إنها حرف، كان المراد حينئذ: طرفَ الجبل أو جانبه. والسياق هو الذى يحدد المراد.
ومما يكشف لك سرّ هذه المسألة أن كراع النمل علىّ بن حسن الهنائىّ ـــ وهو من قدماء اللغويين ـــ إذ كانت وفاته سنة 310ه ــــ جعل الحرف من الأضداد فى لغة العرب، فقد قال فى المنتخب من غريب كلام العرب:
"والحَرْفُ من النُّوقِ: العظيمةُ، كأنها حَرْفُ الجبل، ويقال الصَّغِيرَةُ، ويقال الضَّامِرَةُ؛ ضدّ".اهـ (1/587).
وهذا صريح فى وجود هذين الإطلاقين فى كلامهم.
لكن، لعلّ الأقرب هو ما ذهب إليه الجوهرىّ من إطلاق الحرف عليها عند اجتماع الوصفين فيها. والله أعلم.
وقد اقتصرت فى حديثى المرئىّ الذى بثته قناة "شنقيطى" عن الشاعر ـــ على أن الحرف يراد به: الناقة القوية، وأيضا: حدُّ الشىء وطرَفه. وهذا صحيح، لكن لم أبين أصل التشبيه، لأن المقام ليس مقام إفاضة فى شرح أصول المفردات، ولأنى أفترض أن من لهم دراية بالديوان، أو بهذه القصة بالذات، يعرفون موضع النزاع، ويذكرون معى قول الشيخ سَيِّدى محمد:
(حرف الكُدَى، لا سواه جمعه حِرفٌ/ وزانه عنبٌ، والجمع قد عُرفا...).
***
ذلك، وقد أكثر الشعراء من وصف الناقة بأنها حرف ــ على أوجه التشبيه التى ذكر اللغويون أعلاه.
فمن ذلك قول الحارث بن حِلِّزة اليشكرىّ:
أَنْمِى إِلى حَرْفٍ مُذَكَّرَةٍ/ تَهِصُ الْحَصَى بِمَوَاقِعٍ خُنْسِ،
وقولُ طرفة بن العبد:
جُماليّةٌ وجناءُ، حَرْفٌ، تَخالُها/ بأنساعِها والرّحلِ صرحاً مُمَرَّدَا
وقولُ لبيد رضى الله عنه:
عُذَافِرةٌ حَرفٌ كأن قتُودَها/ تَضَمنَّهُ جَوْنُ السَّراة عَذُومُ
وقوله أيضا:
لولا تُسَلِّيكَ اللبَانَةَ حُرَّةٌ/ حَرَجٌ كأحناءِ الغَبيطِ عَقيـــــــــــــــــــــــمُ
حَرْفٌ أضرَّ بها السِّفَارُ كأنَّها/ بعد الكَلالِ مُسَدَّمٌ مَحْجُــــــــــــــــــومُ.
وقول كعب بن زهير رضى الله عنه:
حرف أبوها أخوها من مهجنة/ وعمها خالها قوداء شمليل
وفى بعض الروايات: "أخوها أبوها"،
وقول عبد الله بن سلمة الغامدىّ، وهو من شعراء المفضليات:
فَتَعَدَّ عَنها إِذ نَأَتْ بِشِمِلَّةٍ/ حَرْفٍ كَعُود القَوْسِ غَيْرِ ضَرُوسِ
إلخ...
وهذه المثُل قَطرة من بحر لا يُدرَك غَورُه.
ونختم هذه الإلماعة برَدّ العجُز على الصدر، فننقل عن صاحب التاج قولَه فى مادة (طلّ):
"الطَّلُّ: الْمَطَرُ الضَّعِيفُ، أَو أَخَفُّ الْمَطَرِ، كَما فِى المُحْكَمِ، أَو أَضْعَفُهُ، كَمَا فِى الصَّحاحِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَهُوَ مالَهُ أَثَرٌ قَليلٌ، ومنهُ قولُهُ تَعلى: (فإن لَم يُصِبْهَا وابِلٌ فَطَلٌّ)، أَو هُوَ النَّدَى الَّذِى يَنْزِلُ من السَّماءِ فِى الصَّحْوِ، أَو هُوَ فَوْقَهُ ودُونَ الْمَطَرِ،ج:طِلاَلٌ، بالكسرِ، أَنْشَدَ ابنُ جِنِّى فِى المُحْتَسَبِ، للقُحَيْفِ العُقَيْلِىِّ:
دِيارُ الحَىّ يَضْرِبُها الطِّلالُ ... بِها أَهْلٌ مِنَ الخافِى ومالُ
وطِللٌ، كَعِنَبٍ، هَذِه عَن الفَرَّاءِ، ومثلُهُ حَرْفُ الجَبَلِ وحِرَفٌ، قالَ: وَلم يُسْمَعُ غَيْرُهما". اهـ
قلت: والخافى: الجنّ، لخفائهم، واستتارهم، كما ذكره أبو الفتح فى كتاب "التمام فى تفسير أشعار هذيل" مما أغفله أبو سعيد السُّكَّرىّ". (ص: 118).
ولعل الشيخ باستعماله لهذا الجمع النادر كان يرمى إلى الجمع بين عنصرى الإفادة والإغراب. وبالله التوفيق.