لا تعد يا بني’ فما كان أبوك بلطجيا ولا عسكريا
كما كنت تتوقع حانت لحظة إحالة أبيك للاستفادة من حقه في التقاعد. بإمكانك أن تسميها حالة بوح مكبوح أو أسلوب شرط أو سميها ما شئت. المهم أن تعلم أنه هنا في هذا البلد الغالي علينا، ليس في التقاعد ما يشبه الحق أو يمت بصلة إليه بل وأكثر من ذلك إن لم نقل حقا لا يستحق حتى المطالبة به أو الاستفادة منه، عكسا لما عليه الحال هناك في الغرب كله وخاصة في ديار الغربة التي احتضنتك، فالتقاعد عندنا لا يمثل ميزة ولا فائدة تذكر. لذلك لا يتلقى المتقاعد في موريتانيا قرار إحالته للاستفادة من هذا الحق بارتياح لأن من سيدفع بهم في هذا الفضاء يرمون في غيابات النسيان وحتى المؤسسات التي خدمها هؤلاء المتقاعدون لسنوات عدة ستكون أول من يتسارع في التخلص منهم فالكفاءة هنا لا تعني شيئا. والقائمون على المؤسسات والإدارات لا يميزون بين من لديهم كفاءات وخبرات وبين الحمر ممن لا يمتلك نصيبا ولو ضئيلا من المعرفة يؤهلهم لأي منصب محتمل أحرى أن يكونوا عاملين بمواصفات العامل بسيط. والواقع أنه كان من المفترض أن يمتلك الشخص المكلف بتقييم الكفاءات مستوى معينا من الدراسة عكس ما عليه الحال بالنسبة لغالبية مسؤولينا السامين.
لا غرو إن كنت أيها الفتى قد حسبت أن أباك عاني من كل ذلك وإن لم يكن واهما فيما يخص احترام ضوابط العدالة والمساواة في البلد. كما لم يكن والدك واهما برد جميل من قبل الدولة ومؤسساتها لأشخاص خدموها.
أترى يا ولدي حال والدك اليوم بعد أن أخذت الوكالة وجريدتاها الوطنيتان منه عصارة جهد ومثابرة لسنين عدة وكأنها تبدو على عجلة من أمرها والحالة هذه للتخلص منه.
أكتفي بهذا القدر، على أن أزودك بتفاصيل أكثر عن هذا الموضوع في المراسلات القادمة إن كتب الله.
وعليه لا يسعني إلا أن أحيطك علما بأن والدك لم يتلق لا من الوكالة ولا من الوزارة الوصية على الاتصال أو ما تبقى منها ولو كلمة طيبة أو كلمة شكر على الأقل في نهاية مسيرة طويلة من المثابرة.
لم يتلقى أبوك من الوزيرة ولا حتى من الأمين العام ولا من المديرين بمن فيهم مدير الوكالة الموريتانية للأنباء أدنى كلمة بهذه المناسبة. ولكن لا عجب فهذا العالم الجميل يشمل في غالبية مسؤوليه أشخاصا غرباء على القطاع وعلى المهنة، قدموا من أصقاع أخرى أو بعبارة أخرى (قذف بهم من الأعلى) ولا يعرفون ما يفعلون في هذه الوزارة التي تخلت منذ مدة عن وصايتها على الاتصال دون أن يكون لها دور آخر.
على أي حال وباختصار هذه المسألة من شأن الوزارة والنظام لا تخصك في شيء ولا والدك. إن ما أريدك أن تعلم أن أباك ذهب ببساطة كما يذهب الجميع، ذهب كما ذهب ويذهب كل المأجورين بمن فيهم عديمو الكفاءة الذين لم يبذلوا يوما جهدا في إطار العمل وكذا أولئك الذين لا وجود لهم بدنيا أو الذين لا يحضرون أبدا إلى المكاتب إلا لاستلام رواتب لا يستحقونها.
أنظر حالة الظلم هذه، حيث تبدو الإدارة فاقدة للذاكرة لا تميز بين من أفنوا عمرهم في خدمتها وبين من أمضوا حياتهم يستخدمونها لمآربهم.
ليس هناك من سبيل لحل هذه المعضلة، هكذا هي إدارتنا، لا تنتظر منها الحد الأدنى من المساواة أو رد الجميل تجاه من يعتقدون أنهم تميزوا بخبرتهم وتفانيهم.
لذلك ما من أحد هنا في هذا البلد يولي هذه الإدارة ما يلزم من الاحترام (فلتذهب إلى الجحيم) كما يقول البعض عندما تحاول تنبيهه بأن هذا التصرف أو ذاك لا يتماشى والضوابط الإدارية أو المصلحة الوطنية.
وهكذا غدا سلوك الاحتيال منهجا. ولا أحدثك هنا سوى عن طرق الاحتيال تلك الهادفة إلى تأخير فترة الإحالة إلى التقاعد، فوصفة إطالة العمر بسيطة: تزوير أوراق الحالة المدنية بادعاء كاذب وكاذب جدا لتاريخ الميلاد.
ويجدر القول إن عمليات الإحصاء التي قام بها وكلاء الوظيفة العمومية أو الحالة المدنية في السنوات الأخيرة فتحت الفرصة أمام العديد من المتحايلين. عملية يمكن التأكد منها والكل يعلم بها داخل هذه الإدارة التي تركت ورائي فيها عددا من الموظفين الذين لا يزالون في الخدمة ممن اكتتبوا عندما كنت لا أزال أدرس في الإعدادية. لك أن تتصور؟ المعاد تدويرهم وأبقوا في الخدمة إضافة إلى أولئك الذين زوروا وثائق حالتهم المدنية حتى يبقوا في الحياة النشطة، هناك فئة أخرى من العمال المنتقين ليكونوا معفيين من التقاعد. هؤلاء الأشخاص هم ذوو الحظوة ممن استفادوا من الامتيازات المتمثلة في إعادة تدويرهم والاحتفاظ بهم في الخدمة بنعمة من الجنرال عبد العزيز الذي يكون أحيانا من أقربائهم وأحيانا رفيق دفعتهم. ومن بين هذه الفئة هناك من يحتاج إليه الرئيس حتى يظل حاكما أو إن اقتضت الضرورة لتأمين قواعده الخلفية بعد مغادرته السلطة.
هكذا، ولإطالة الحياة المهنية لكبار القادة، توصل الجيش الوطني إلى وصفة الدواء الشافي التي تمنحها رتبة الجنرال ليستغلها على أوسع نطاق حيث لوحظ في السنوات الأخيرة تضخم في عدد الجنرالات الذي لا يبرره الحجم الحقيقي للصامتة الكبرى ولا المستوى الأكاديمي لضباطنا البواسل.
وهكذا مكنت الوصفة الانتقائية (لإعادة التدوير) اليوم من الإبقاء على كبار السن على رأس المؤسسات العمومية الوطنية وكذا من تراكم الرتب العليا على الضباط الجنرالات ومن كسب رتب عليا جدا أحيانا لا تبررها سوى إرادة القائد وحده في تمديد الحياة المهنية للضباط السامين. لقد بات التقاعد مثل أي شيء آخر في ما يمكن تشبيهه بمنطقة ينعدم فيها القانون، انتقائيا، إن لم يكن محصورا فقط على أولئك الذين ليس لديهم منفذ إلى القصر ولا يتمتعون بمزايا القائد. ومهما يكن، هذه مسألة يمكن أن نعرج عليها لاحقا مع ذكر الأسماء، أسلوب لن ألجأ إليه كما تعلم إلا عند الضرورة القصوى.
وإذا كنت أطلعتك على كل هذه التفاصيل فقد وددت أن تعرف ما يلي:
ـ أن الإدارة لئيمة ناكرة للجميل ـ وأن العدالة هي الغائب الكبير ـ وأن المثابرين في نكران الذات وأحيانا على حساب صحتهم لتأمين السير الجيد للخدمة العمومية إنما يضيعون وقتهم،
ـ وأن الإدارة تعير اهتماما أكبر لمن يستخدموها لا لمن يخدموها.
تصور أن والدك الذي أحيانا ما يقضي الليالي بكاملها في قاعات التحرير وورشات المطبعة لم يتم حتى اقتراح اسمه ليوشح كما جرت العادة بالنسبة لغالبية الوكلاء المستفيدين من حقهم في التقاعد.
وبطبيعة الحال أنت تدرك تماما أنني لا أأسف على عدم توشيحي لأني شخصيا لا أجد في ذلك ذرة من الشرف، والأفضل أو الأسوأ، لا أرى غضاضة في أن الأصلح لكرامة شخصيي المتواضع أن تخلو لائحة المتلقين غير المستحقين من اسمي. لقد اعتقدت ببساطة أن لسفالة الإدارة وعجزها وجحودها حدودا.
وحتى لا آخذ الكثير من وقتك، أردت فقط اطلاعك على بعض الحقائق لتتفادى العديد من النكسات التي عانى منها أولئك الذين عادوا إلى الوطن للإقامة من جديد. لذلك أوصيك بأن لا تعود إلى بلدك إلا لقضاء عطلة محدودة. لا تعد أبدا للإقامة أو العمل هنا. عليك أن تتفادى بأي ثمن أن تخدم في هذا البلد الذي لن تجني منه سوى الإحباط وما دام لم يحدث تغيير حقيقي في موريتانيا، لن يتم تقييمك وفق معارفك ولا لمهاراتك بل ستجد نفسك عرضة لبلطجة مقززة خلفت قبلك العديد من الضحايا في صفوف أطر هذا البلد.
وإن كنت تريد أن تظل شخصا مستقيما منسجما مع ذاتك ومبادئك وقيمك الأخلاقية، وإذا كنت كأهلك لا يمكنك لأي غرض كان أن تتملق فاحرص على أن تنهي دراساتك حيث أنت وتستكمل إجراءات التجنيس في بلد الاستقبال حيث يسري القانون على الجميع دون تمييز.
لقد صرت ناضجا لتستوعب كل هذه الأشياء وتنظم نفسك حتى لا تعود إلى بلدك إلا لقضاء عطلة محدودة. هذه وصيتي لك ، أؤكد عليها لأنني على يقين من أن البلد في هذا الزمن الذي نعيشه لا يمكن أن يزدهر فيه ويتغلب فيه على عاديات الزمن إلا من يقتاتون على النذالة والخساسة أو البلطجة أو العساكر المفرزين أو الاثنين معا.
عليك أيضا أن لا تقلق على مكتبتك الصغيرة ومكتبة أخيك فما زلت هنا لألقي عليهما نظرة كل يوم بعد ان غدوت متفرغا وما من شيء يشغلني.