لست في وارد بسط المعاذير، تمهيدا لما قد يراه البعض تضخيما لمثالب صحافتنا وتجنيا على تجربتنا - وربما - استهدافا لأشخاص عاديين واعتباريين، وعلى أدنى تقدير مبالغة في التشاؤم على رأي أمثل القوم طريقة، وأكثرهم اتزاناً، وأراه من جهتي إحجاما محسوباً عن تفاؤل يعوزه المسوغ.
حين أكتب عن صحافة بلدي، أتحدث عن مهنةٍ يُفترضُ أنها علمتني ألاً أسعى إلا للحقيقة ومن أجلها؛ دخلتُها يافعا، وشابَ فيها مفرقايَ (هل عليَ أن أقول للأسف؟) أنا ابن بجدتها، واكبتُ مسيرة الصحافة المستقلة، وكنت شاهدا على أبرز المنعرجات والمنحدرات التي تردى فيها أغلبُها، حتى أضحت كما هيَ اليوم مفلسة كمومس في دير رهبان، سهلة الادعاء كالانتماء للدوحة الشريفة في المنكب البرزخي!
الحقل الإعلامي الوطني غارق في وحل تحدياتٍ متشابكة، وتكتسحه أعشاب ضارةٌ، تتطاول، وكأنها تُشير إلى نفسها وتقول "أنا هنا وأنا الحصاد".
موقف السلطة مما يجري يشبه رجل إطفاء، ينتظر بكامل جاهزيته حتى تلتهم النار كل شيء، فيكتفي بإحصاء الضحايا، قبل دفنهم في قبر جماعي؛ لقد كنت شاهدا مراتٍ، مثل كثيرين، على مساع مكشوفة لتمييع الحقل الصحفي، بهدف قطع الطريق أمام قيام صحافة مهنية، يمكنها صناعةُ رأيٍ عام أو توجيهه؛ ولقد أوكلت - وما تزال - لتلك الدمى الإعلامية مهماتٌ قذرة. صحيح أننا كصحفيين نتحمل - أو معظمنا – جانبا من المسؤولية الأخلاقية والتاريخية عما آلات التجربة الإعلامية الوطنية؛ ولكن الجانب الأكثر يقع على عاتق السلطة، فهي وحدَها المخولةُ والقادرةُ على فرض القانون في أي قطاع، فلماذا يبقى الحقل الصحفي استثناء؟
كيف لا يتطلب إطلاقُ "مؤسسة" إعلامية أكثر من تصريح لدى النيابة، موسوم بطابع جبائي من فئة ألف أوقية؟ كيف تكاثرت الصحف الالكترونية لتصبح مائة موقع لكل جهة، ولكل قبيلة، ولكل فاعل أو مفعول أو تابع؟
لا مأخذَ لديَ في جوانب التنظير والتقعيد في ترسانتنا القانونية، كلُ النصوص جيدةُ بل رائعة أحياناً، لكن لا نصَ حيٌ، فلماذا لم تُفعل لجنة البطاقة الصحفية لتميز الخبيث من الطيب، والأمي من الجاهل؟ ثم أي سخرية فظة كالتباهي بتخصيص أقل من مائتي ألف أوقية، دعما حكوميا سنويا - أجل سنويا – لصحيفة موجودةٍ على قدم المساواة مع أخرى وهمية؟ لماذا تتغاضى الدولة عن تشغيل عشرات الصحفيين خارج القانون بما يشبه السخرة في القطاعين العام والخاص؟ أعرفُ عُقدويين في الإعلام الحكومي يتقاضون ثلاثين ألف أوقية شهريا، وأخبرني أحدهم أنه لا يُعول عليها بقدر ما يُعول إكراميات التغطيات الإخبارية.. من دعا للتشاور حول إصلاح الصحافة ومن يُفترضُ أن يطبق التوصيات؟.
رجاء؛ لا تحدثوني عن حرية التعبير واتساع هامشها (ربما المقصود بالتعبير هنا الإنشاء الذي كنا نتمرن عليه في الدراسة الابتدائية) هي حرية الصراخ لا غير ... هي عبث وقح بهذا المبدأ المقدس ... هي أيضا حرية الافتراء والتلفيق، مع انعدام كل فرص النفاذ إلى المعلومة الدقيقة.. هي حرية الابتزاز والولوغ في أعراض الناس، حيث لا مبيعات ولا إعلانات؛ كبرياتُ الصحف تسحب خمسمائة نسخة ينتهي المطاف بأوفرها حظا في دفء أفران طلاء السيارات.
ربما لا يعلمُ الكثيرون أن البند الأهم في عقود إعلانات شركات الاتصال، وهي الموردُ الوحيد لما بقيَ من الصحف، هو عدمُ التعريض بالشركة، وعدم نشر أي خبر يمسُ من مصداقيتها ...كل الصحف والمواقع الإليكترونية ووسائل الإعلام السمعي البصري وقعت على عقود الإذعان هذه..هذا إن كان لها حظوة وشرف توقيعها..
وددت لو سايرتُ دعاة التفاؤل بيدَ أن رئيس البلاد دعا مؤخراً للتحلي بمزيد من الصبر، المزيد والمزيد، حتى يُستخرج الغاز ويُصدر؛ عبر الطريق ذاته : طريق النفط والحديد والنحاس والذهب.
حقق الله آمالنا.
عبد الله اتفاغ المختار صحفي بمؤسسة صحراء ميديا