درس علماء النفس وأطباء الأعصاب والأخصائيين الاجتماعيين حالة الشخص المجنون، وطبيعة التفاعل معه، مقسمين الجنون إلى مستويات متعددة، ومفرقين بين المعتوه والمجنون الذي يمكن القول عنه إنه الشخص الغير قادر على تمييز الصواب في القول أو الفعل من الخطأ، والذي لا يمكن توقع ما يصدر عنه على خلاف الشخص العاقل، ومهما يكن حاله فهذا لا ينفي صفة الإنسان عنه، وإن حرمه الله عز وجل نعمة العقل لحكمة لا يعلمها إلا علاّم الغيوب، ولإنه كان على هكذا وضع فهو لا يدرك ماله وما عليه، ومن الإجحاف أن نتوقع منه عدم الخطأ في حقنا، أو نأمل منه خيرا في حقنا، كما من الحيف أن ننتظر منه أن يطالب بحقه في توفير لقمة خبز تسد رمق جوعه، أو شربة ماء تروي عطشه، أو الحصول على دواء لداء ألم به، أو مسكنا يأويه من التشرد في الشوارع، أو ملبسا يكفيه شرور الطقس.....
وفي المقابل أنعم الله على غيره بالعقل، لما يعنيه ذلك من تحمل للمسؤولية الأخلاقية عن وضع أخ له في الحياة، فما بالك إذا جمعهما الوطن والنسب ـ وقبل أن يعيب أحدهم علينا أننا لم نقل يجمعهما الدين فالمجنون لا دين له بحكم انتفاء شرط صحة الدين ـ وهي مسؤولية الفرد كواحد يحقق بالتزامه المسؤولية الجماعية، وتمثل الدولة بحكم وظيفتها وأصل مشروعيتها الإطار المعبر عن مدى تحمل المجتمع لمسؤولياته الحضارية، وهنا عملت الدول على اختلاف مستوياتها أن تقدم الحقوق لمواطنيها، إلا أنها تشترك في سمة تغليب حقوق أصحاب الحق الناطقين تحت ضغط مطالب أصحابها، فيما تبقى حقوق أصحاب الحق الصامتين مهملة منسية، لأن أصحابها ببساطة هم مواطنون من درجات ـ ثانية وثالثة وعاشرة ـ تتفاوت في أولويتها خدميا، ولعل أدناها في الترتيب، أولئك المجانين الذين يتجولون في الشوارع، دون مأوى ويقتاتون من فضلات القمامة وتهلكهم الأوبئة على جنبات الطرق دون أبسط رعاية، منهم من ولد مجنونا ومن أصابته علاّت الدنيا بالجنون، وفي قطرنا حيث لازال بقية من دين وأخلاق نحبس مجانيننا في البيوت، ومع ذلك يجد الكثير منهم طريقه إلى المجهول، هاربا لا يعرف مما ذا؟ ولا إلى أين؟ أو تمنع الأهل ظروفا اقتصادية أو اجتماعية فيتركونه سائحا وعلى الله رزقه.
واقع المجانين وظروف عيشهم على الأرصفة وفي الأزقة، واقع نتحمل جميعا المسؤولية عنه، فالنخبة ابتعدت بأفكارها ونقاشاتها في الثقافة والفكر والسياسة عن سهل ممتنع و"واضح توضيحه يزده إشكالا"، وهي التي يتوقع منها تذكير الدولة بنقاط التقصير في سياساتها، وأن تكون لسان من لا لسان له، وعقلا لمن لا عقل له، أما الدولة فلا تعدو كونها المرآة العاكسة لما عليه نخبتها، وهي التي يحكم عقول القائمين عليها سلطان الفساد، ويعتمدون مبدأ "التفݤـريش"، فيهملون حقوق الأصحاء فما بالك بحقوق المجانين.
إن منح المجنون حقه ليس فعلا يقتصر أثره على المجنون فحسب، بل يتجاوزه إلى المجتمع الذي سيكون في أمان من بطش من يبطش من المجانين، وتتوفر له الحماية الصحية بحرمان فيروسات القمامة من أجسام تنقلها إلى من تحتك بهم، وبإيواء المجانين يتحسن مظهر المدينة......، وبالتالي فتوفير حق الشخص المجنون حاجة الشخص العاقل، وما يحول دون ذلك في اعتقادي هو غياب هذه الحقيقة عن ذهن المسؤول في قطرنا، إلى جانب ضبابية الرؤية حول استراتيجية إنمائية حقيقية، مدفوعة بإرادة سياسية صادقة.
بالعودة إلى البنى التحتية الصحية في قطرنا العزيز، نلاحظ انعدام المؤسسات الصحية لعلاج الأمراض العصبية والنفسية، إلا ما كان من المستشفى المعروف شعبيا ب "طب ݘـاه" وهو مركز صحي يفتقر للتجهيزات الضرورية والكادر الطبي المهني، إلى جانب ضيقه، في الوقت الذي تدشن المستشفيات لأمراض مختلفة ـ على أهميتها ـ دون لفتة كريمة لحاجة هؤلاء المجانين المساكين إلى وجود مصحات عقلية تنفق الدولة عليها، وتوفر العلاج لمن يؤمل في شفائه من جنونه، وللآخر يجد بيتا حيث الرفقة، ولم لا الاستفادة منهم في نشاط مدر للدخل يدربون على مزاولته في المصحات.
على الشخص العاقل أن يحمد الله عز وجل ويشكره على نعمة العقل، ولا يكون شكرها إلا بتحمل ما يترافق مع هذه النعمة من مسؤوليات شرعية وأخلاقية، يتفاوت العاقلون في مستوى إدراكها وتبنيها، وأداء الواجب المترتب عنها، وقد ينسى الإنسان في ظل المشاغل والهموم، أن يقوم بواجب ما، ولكن ما لا يغتفر هو أن يتذكر واجبه فيأبى تأديته، أو يذكّر به فيصيبه الأنا، ويحول بينه وأداء أمانة حمّلها يوم ولد، وساعتها يكون المجنون بحق، وأخشى أن نخبتنا اليوم على الطريق لتكون مجانين في هيئة عاقلين.
العدد 37 من جريدة الدرب العربي الصادرة بتاريخ 2017/05/01 عن حزب البعث العربي الاشتراكي قطر موريتانيا