أتذكر أنني قرأت قبل نحو عشرين سنة من الآن في إحدى اليوميات الفرنسية كلاما نقل على سبيل السخرية من جريدة زائيرية حول بلجيكا فحواه ما يلي: "إن قبيلة الفلاماند (سكان منطقة الفلاندرز ولغتهم الهولندية) على وشك الدخول في حرب مع قبيلة الوالون (سكان منطقة والونيا ولغتهم الفرنسية). وقد وعد كبار سحرة القبيلتين بعقد لقاء لمحاولة نزع فتيل الأزمة".
إن مغزى هذه السخرية بالنسبة للفرنسيين الذين عرفوا تقليديا بحب التندر على جيرانهم البلجيكيين، ليس سوى توظيف المستعمَرين الأفارقة السابقين للسلبيات القبلية وهم يصنفون "أسيادهم السابقين" وفق الصيغ التراتبية التي كانوا هم أنفسهم لها خاضعين. ولا يفترض إطلاقا أن يتمثل القارئ الفلامانديين والوالونيين بوصفهم "قبيلتين" ولا قِسَسَهم على أنهم "سحرة". وعلى كل حال فبلجيكا قد حطمت رقما قياسيا عالميا في أزمتها الحكومية حيث ظلت لمدة أكثر من سنة بلا حكومة رسمية نتيجة النزاع بين الناطقين بالهولندية "الهولندفونيين" والناطقين بالفرنسية "الفرانكفونيين" ودون أن تترتب على ذلك، فيما يبدو، أضرار على تسيير الدولة البلجيكية. وعلى النقيض من ذلك شهدت زائير سابقا، أي جمهورية الكونغو الديمقراطية، وما زالت تشهد واحدة من أكثر حروب كوكبنا الأهلية دموية (أزيد من أربعة ملايين ضحية). ويعلل المحللون هذه الحرب بترسخ الانتماءات القبلية والعرقية بدل الولاء لسلطة دولة تلعب فعلا دور "الوازع" الذي يسنده ابن خلدون للدولة. ولكن ما المعني بالضبط بالقبائل والإثنيات وأي نوع بالضبط من العلاقات يربطها بالدولة وخاصة في إفريقيا؟
التضامنات البدائية
تجسد النكتة التي افتتحت بها هذا المقال أركان التراتبية التي تصاحب التمثلات المشتركة، وفق النظرة العامة المعاصرة، لمفهومي القبيلة والدولة والعلاقات بينهما. وحسب النظرة التطورية للمجتمعات البشرية التي تدشنها أعمال لويس هنري مورغان (Lewis Henry Morgan) بشكل لا لبس فيه في تاريخ الأنتروبولوجيا، فإن التنظيم القبلي يتم إدراجه في "مرحلة" خاصة من التطور ألا وهي "المرحلة البربرية". وهي تقع بين "العشيرة" التي هي من خصائص مرحلة "التوحش" وبين الدولة التي يعتبر بروزها معاصرا لمرحلة "الحضارة". وقد حافظت الأنتروبولوجيا الوظائفية البريطانية التي هي وريثة أعمال أميل دوركايم (Émile Durkheim)، بل عمقت حسب بعض الرؤى، التعارض بين القبيلة والدولة. وقد أفضى بدوركايم تفكيره حول ما أحرز من تقدم بشأن تقسيم العمل وما تمخض عن ذلك من آثار إلى التمييز بشكل قاطع بين "التضامن الميكانيكي" أو "بالمحاكاة" وهو من خصائص المجتمعات قليلة التمايز حيث لم تكن الوحدة (الوحدة المنزلية، المخيم، القرية...) سوى نسخة طبق الأصل من الوحدة الموازية، وبين "التضامن العضوي" الذي يميز التجمعات البشرية التي تعرف تقسيما للعمل أكثر تطورا. وستدعى المجتمعات الأولى المقسمة إلى وحدات متشابهة، القبائل أو بطون القبائل، مجتمعات "انقسامية" وتقابلها المجتمعات الصناعية حيث يفرز تقسيم العمل أشكالا أخرى من الترابط تقوم على تنوع الحرف والاختصاصات أي على تقسيم طبقي.
وقد أسهم الأنتروبولوجي البريطاني إفانس-بريتشار (Evans-Pritchard)، وهو صاحب دراسة أصيلة حول قبائل النوير بجنوب السودان، إسهاما كبيرا في توطيد التناقض الذي نَظَّر له عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم وأكسبه صبغة جوهرية. فبالنسبة لإيفانس-بريتشار، كما هو الشأن بالنسبة للأعمال التي استوحت منه، فإن التنظيم القبلي يقوم قبل كل شيء على القرابة وبشكل خاص على روابط خاصة من القرابة تدعى "أحادية النسب" ("القرابة الأبوية بالنسبة للنوير"). فمرجعية الجد الجامع إذا رافقتها طريقة معينة في الزواج فإنها تمكن في هذا النوع من المجتمعات من تحديد وحدات تنطلق من الأقرب فالأقرب ثم تتوسع شيئا فشيئا (بطن، عشيرة، فخذ، قبيلة في السياق لعربي على سبيل المثال) وهي تقوم في الوقت ذاته على التضامن والتنافس وفق مبدأ التعارض التكاملي "أنا ضد أخي، وأنا وأخي ضد أبناء عمنا، ونحن وأبناء عمنا ضد أهل الأرض أجمعين". وهذه الفوضى المنظمة شيئا ما والناتجة عن هذه الآلية المزدوجة في الانفصال والاتصال كانت دائما تنعت في الوظائفية كخصيصة جوهرية للمجتمعات القبلية "الانقسامية" والتي توصف أحيانا بأنها "بلا زعيم" أو "بلا دولة". والصراع الفردي (الثأر) أو الجماعي (الحرب بين القبائل) هو الوسيلة الأساسية وربما الوحيدة التي كانت هذه المجتمعات تحل بها التناقضات التي تنشب بين أفرادها أو جماعاتها. وكان إيفانس بريتشار يرى أنه لا يمكن أن يقوم بين القبائل إلا الحروب. وهذا ما يميز جذريا بين الفضاء القبلي وبين طريقة إدارة الدولة القائمة، حسب التعريف الشهير الذي وضعه ماكس فبير (Max Weber)، على احتكار شرعية ممارسة العنف الجسدي من قبل دائرة الدولة. وينبغي أن نضيف إلى الدور المركزي للقرابة في المجتمعات القبلية، دور الحوزة الترابية ومجموعة القيم الرمزية (المعتقدات الدينية، الممارسات الشعائرية، الخ) والذكرياتية (القصص الأسطورية والتاريخية المشتركة، أماكن الذكريات) المرتبطة بتاريخ ومكانة المجموعة.
وإذا وضعت هذه التأملات الأنتروبولوجية حول القبيلة والدولة في السياق العربي فإنها تعيد إلى الذهن إسهام ابن خلدون الخالد في موضوع "العصبية" وصراع "العصبيات". ويبدو لي أن هناك فارقين بين المقاربة الخلدونية وبين مقاربات منظري الانقسامية المحدثين. فمن جهة لا نجد لدى صاحب المقدمة تعارضا قويا بين المجتمع القبلي وبين مجتمع الدولة لأن غاية العصبية النهائية وهدفها الأخير في الحالتين هو السلطة "الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك". ومن جهة أخرى يعطي ابن خلدون للدين دورا حاسما في الانتقال من العصبية القبلية إلى الملك. وصحيح أن هذا التصور يقوم على التعارض بين "عمران بدوي" و"عمران حضري" لكنه لا ينطبق إلا جزئيا على التاريخ السياسي للقارة الإفريقية. ونعرف أنه بالنسبة لابن خلدون فإن "العرب (ويقصد بهم أساسا البدو) لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة". ويلقي هذا الأمر ضوء مفيدا على جهاد قبائل الفلان في القرن التاسع عشر بقيادة زعماء دينيين على رأس محاربين بدو (عثمان دان فوديو في شمال نيجيريا، شيخو أحمد في منطقة ماسينا بمالي... الخ)، لكنه لا يساعد البتة في فهم الصراعات ذات الأساس العرقي في جمهورية الكونغو الديمقراطية أو رواندا وبوروندي في أيامنا هذه.
والقبيلة والإثنية تنتميان، حسب النظرة العامة، لحقلين دلاليين متجاورين أو لنقل متماهيين. فالإثنية في الاستخدام العام تعني مجموعة لغوية وثقافية وترابية أبعادها أوسع من القبيلة التي تشترك معها في دلالات "القرب" و"التخلف" وحتى البدائية التي يفترض أنها خاصة بالشعوب "غير المتحضرة". ويقابل هذا المفهوم، في هذا السياق، مفهوم "الأمة" المخصص للمجموعات البشرية "المتطورة" الموحدة في دولة. وعلى هذا تكون الإثنية بمثابة أمة في حالة تصفية أي بمثابة أمة ينقصها شيء ما ألا وهو الدولة. وكما بينت دراسات أنتربولوجية عدة (فريدريك بارث، آمسيل وامبوكولو... الخ) فإن اختصاص عبارة "الإثنية" في تصنيف السكان الخاضعين للاستعمار كان يستجيب لاعتبارات أملتها ضرورات الإدارات الاستعمارية التي أسهمت في إفريقيا وغيرها في بلورة كيانات كانت في الأصل أكثر ضبابية. وتتسم علاقات الإثنيات مع الحدود بالتعقد سواء كانت تلك الحدود من رسم المستعمر أم لا. فتلك العلاقات تقوم غالبا على نوع من الامتداد الترابي غير أن تحولات التاريخ تفرض على الإثنيات في بعض الحالات تفككا جغرافيا لا يقضي في المقابل على إحساسها بالشعور بوحدة الهوية. وعلى كل حال ففي ظل الدول الموروثة عن الاستعمار وسيطرتها نمت أكثر التناقضات الإثنية اتساعا وأشدها فتكا ودموية في إفريقيا المعاصرة.
الدولة المستوردة: القبلية والإثنوية
هل عرفت إفريقيا جنوب الصحراء دولا غير الدول "المستوردة" التي خلفها الاستعمار؟ وهل الدولة التي هي "ملخص رسمي للمجتمع" كما كان يقول كارل ماركس (Karl Marx) لم تكن سوى ثمرة "عملية زرع" جاءت متأخرة وغير منسجمة مع تقلب المشاعر القبلية والإثنية التي تميزها. فالإشكالية التي أثارها "خطاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في داكار" قد أذكت قبل وقت قصير هذا النوع من التساؤلات في إفريقيا الفرانكفونية. فقد صدرت ردود فعل قوية من مؤرخين وأنتربولوجيين أفارقة ومختصين في إفريقيا على الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي في جامعة داكار في يوليو /تموز 2007 وقال فيه بشكل خاص: "إن الإنسان الإفريقي لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية". فقد رأوا في هذه الجملة تعبيرا عن جهلٍ وتنكر لتاريخ إفريقيا الإمبراطوري الطويل والعريق والذي تجسده، في منطقة الساحل وحدها، دول شهدت في عصورها نفوذا وازدهارا كبيرين كغانا (من القرن 8 إلى القرن 12) ومالي (القرنان 13 و14) وسونغاي (القرنان 15 و16).
لكن هذه الحقبة العريقة أعقبها انحطاط لا مراء فيه ارتبط بشكل خاص بالخراب الذي خلفته تجارة الرقيق. ثم جاء الاستعمار الأوروبي ابتداء من القرن التاسع عشر ليجزئ المنطقة الجغرافية وسط تنافس محموم بين التجار المغامرين والدول الناهبة. وبطبيعة الحال لم تكن حدود "الغنائم" المغصوبة من هنا وهناك تراعي الوحدات الثقافية والسياسية السابقة. ولننظر إلى هذا الخليط الواسع والممتد الذي يدعى جمهورية الكونغو الديمقراطية والذي هو ثمرة غارات نهب شبه خصوصية شنها ملك بلجيكا ليوبولد الثاني بالتعاون مع المستكشف المغامر ستانلي. وقد تمت إدارة الفضاءات الإفريقية المغزوة بشكل "قبلي" و"إثني"بعد أن سُلِبوا استقلاليتهم السياسية. وهكذا باتت الإحصاءات الإدارية وتعيين الوسطاء السياسيين وجمع الضرائب تتم كلها في إطار "قبلي" و"إثني" وستسهم الدراسات الأحادية العرقية في إعطائه نوعا من الشرعية الأكاديمية.
ولا نريد أن نقول إن الاستعمار "اخترع" ببساطة القبائل والإثنيات كما ينزع إلى تأكيد ذلك بعض ما بعد الحداثيين من الباحثين في أيامنا. ومع أن الاستعمار من مصلحته تنويع وتعميق الانقسامات لتسهيل بسط سيادته، فلا يمكن أن نحمله مسؤولية أنظمة القرابة واللغات والتقاليد الدينية... الخ، الخاصة بالمجموعات التي وجدها أمامه. وكان لأصحاب جيل الاستقلال السياسي الإفريقي الأول (كوامي نكروما، جومو كينياتا، جوليوس نييريريه، ليوبولد سيدار سنغور، الخ) موقف لا يخلو من تناقض إزاء التصنيفات التي كان يعتمدها الاستعمار. فقد حثوا في الوقت ذاته على ضرورة ترقية أجهزة الدولة العصرية الممركزة والجامعة والمستوحاة من النموذج الاستعماري، وعلى "الإدارة الجماعاتية" (نكروما) "الإفريقية الأصيلة" والمرتبطة بالتضامنات الأولية ذات الأصل "القبلي" و"الإثني". ولم تفلح الخطابات "القومية" و"التقدمية" والداعية إلى "الوحدة الإفريقية" التي تبناها هؤلاء الزعماء بعد الحصول على الاستقلال في القضاء على التناقضات بين الجماعات التي تغذيها ممارسات الاستبداد التمييزية التي اعتمدها الزعماء الجدد وأججتها المحسوبية والفساد المتصاعد. وفي هذا السياق أصبح ينظر إلى أجهزة الدولة على أنها تفتقر إلى جذور محلية وبالتالي تفتقد الشرعية. وأصبح ينظر إلى الدولة قبل كل شيء كما لو كانت شيئا لا يعني إلا المتربع على السلطة -وهو غالبا عسكري ينزع شيئا فشيئا إلى الاحتفاظ بها- ومحيطه القبلي والإثني.
ويجدر التنبيه إلى آثار التبعية للخارج في تشكل قبلية وأثنية الحقل السياسي في أغلب الدول الإفريقية. وباستثناءات قليلة، فإن السلطات السياسية التي خلفت الإدارة الاستعمارية المباشرة في إفريقيا جنوب الصحراء خلفتها في إطار عملية "خذ وهات" تمت غالبا بهدوء. وظل وزن الوصاية الاقتصادية والتقنية والمؤسساتية للإمبراطورية الاستعمارية المباشرة فاعلا بشكل عام في أغلب هذه البلدان زمنا طويلا بعد رحيل الاستعمار المباشر. كما استمرت الاختصاصات في عمليات استغلال المواد الأولية (المناجم، النفط، المنتجات الزراعية... الخ) المميزة للعهد الاستعماري. أما "العون التنموي" الذي ظل قبل انهيار جدار برلين دائرا في فلك الانحياز أو عدم الانحياز تبعا للتقيد بقيم هذا القطب أو ذاك فلم ينجح في كسر طوق التبعية. كما لم يفلح اهتمام "المجتمع المدني" بعد نهاية "القطبين" وبداية ترقية "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" في تحرير هذا العون للأسف لا من سيطرة الدول ولا من تضامن الجوار القبلية والإثنية والتي كان يفترض أن تشكل له مخرجا ديمقراطيا. وقد لعب عامل التبعية الخارجية الموروث و/أو المصان من قبل المجموعات السياسية التوسعية مع "شركاء" أجانب (زبناء تجاريين، حماة سياسيين، تجار أسلحة، الخ) دورا لا يستهان به هنا وهناك في الحروب الأهلية والصراعات على السلطة في عدد من الدول الإفريقية. فللسيطرة على النفط والمنغانيز والكاكاو، فإنه من المفيد أن يكون بالمقدور الاعتماد على "قبيلة" أو "أثنية" لمجابهة كيانات من نفس النوع تخدم مصالح منافسة.
ونحن نختزل الأمور دون شك. فلا أحد يجهل بأن الأمر يتعلق بقارة كاملة تتعدد فيها بشكل صارخ أشكال القرابة والأنواع وطبائع الهويات الجماعية ومسالك السلطة السياسية. فالنمو الديمغرافي والتحضر الكثيف يعيدان الآن أمام أعيننا تشكيل الأسس البيئية للهويات الريفية الطابع للمجموعات الإفريقية "التقليدية". ولم تقتصر مساوئ الزواج الإجباري الذي فرضه المستعمر بين الثقافة "القبلية/ الإثنية" وبين نظرة الدولة للعالم على ظهور أمراض فتاكة تعرف باسم القبلية وتنتشر هنا وهناك في إفريقيا. بل أنتج هذا التهجين أيضا النظارات المنحرفة التي يقرأ بها ماضيها سواء تعلق الأمر باستعراض مثالب أو فضائل القبيلة أو الدولة. وإذا تبنينا "تفاؤل" هيغل (Hegel) المتناقض الذي يقول إن التاريخ "يتقدم من جهاته السلبية" فيمكن أن نؤمل أن هذه الأمراض التي تولدت من سياقاتها ربما تنتج يوما ما علاجاتها الذاتية.
عبد الودود ولد الشيخ-المركز الوطني للبحث العلمي باريس