وسط حضور لافت لمثقفي البلاد؛ نظم بيت الشعر - نواكشوط ليلة البارحة أولى فعالياته لإحياء شهر رمضان المبارك، شملت محاضرة ألقاها الأديب الكبير محمد فال بن عبد اللطيف، الذي يعد شخصية أدبية وعلمية وثقافية غنية عن التعريف، لها مؤلفات تتصدر المكتبات الموريتانية منذ عقود.
وبعد تأطير الموضوع من عريف الأمسية الشاعر محمد المحبوبي؛ بدأ الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف محاضرته الموسومة ب"الأدبيات الرمضانية في الثقافة العربية: موريتانيا نموذجا" وفي البدء وجه الشكر لبيت الشعر - نواكشوط، واصفا إياه بالمؤسسة التي حققت الكثير للأدب الموريتاني، مؤكدا أن هذا البيت صار ملتقى للنخبة والمبدعين، وفضاء تواصل بي
وقال "لابد أن أقدم بين يدي نجواي هذه شكرا وذكرا لمؤسسة "بيت الشعر" والقائمين عليها على ما تقدم من مبادرات لإحياء الساحة الثقافية في بلدنا العزيز، وإخراجها من ركودها، فلهذه المؤسسة منا شكر لا يعادله شكر وتقدير تني دونه كل التقديرات"
وأضاف: "من موجبات شكرنا لها أيضا أن شرفتنا بتوفير الفرصة هذه المرة بالمشاركة في إحياء هذا الشهر المبارك إحياء من نوع خاص لا نأمن أن تغفر لنا الساحة الأدبية به ما فرطنا في جنبها جراء تزاحم الأشغال وتراكم الشواغل"
وبعد عرض طريف لتفكيره في الجوانب التي كان يجب اختيارها لهذه المحاضرة، أشار إلى ثراء موضوع المحاضرة: "موضوع بكر حسب علمي، وبكيء حسب اطلاعي، على أني بذلت جهدي ووسعي، وقديما قال عروة بن الورد: ومبلغ نفسه عذرها مثل منجح".
وقال: "خطر لي في الآخر أن الخواطر بطبيعتها لا تقبل الترتيب لأنها متغيرة متحركة مضطربة، فهي أشبه شيء بشتيت المتاع المتفرق لا يجمعها أصل ولا ترجع إلى مبدأ واحد. فخواطر هذا الموضوع قاسمها المشترك الوحيد هو أنها لها صلة برمضان المبارك وبفريضة الصوم إجمالا".
وتطرق ابن عبد اللطيف في محاضرته التي حظيت باهتمام كبير وقاطعه الحضور مرات بالتصفيق الحار، إلى 7 محاور هي:
1 رمضان في الوعي الجماعي الشنقيطي؛
2 مكانة الصوم في المجتمع الشنقيطي؛
3 رمضان والأخلاق والعبادة؛
4 رمضان والشعراء؛
5 رمضان مربد العلماء؛
6 رمضان ومشكلة ثبوت الهلال؛
7 عملية إفطار الصائم.
وفي محور "رمضان في الوعي الجماعي الشنقيطي" استعرض أهمية رمضان، الذي كان الموريتانيون فضلا عن تسمية أبنائهم باسمه، فهم يعتبروه "شهرا لا توجد فيه أيام النحس التي تحدث عنها أرباب هذا الشأن وذكرها السوسي في منظومته الشهيرة، فيجوز للشخص أن يسافر في أي يوم منه وأن يغسل لباسه ويحلق رأسه ويقلم أظفاره لا حرج عليه في شيء من ذلك، وكانوا يتحرون شهر رمضان لإبرام عقود الزواج التماسا لبركته".
وقال: "من بركته عندهم أيضا أنه لا يحاسب المرء على ما أنفق فيه مما جعل بعضهم يعتقد أن الإسراف فيه جائز. ومن بركاته التي يؤمن بها العامة ولا يدركون كنهها أن الشياطين تصفد فيه وتغلق أبواب النيران وتفتح أبواب الجنان كما ورد في الحديث الصحيح، ووقعت فيه المعارك الحاسمة في حياة الأمة كان فيها النصر حليفا للإسلام".
ونوه إلى "أن شهر رمضان مع ذلك، وخصوصا في أيامه الأخيرة، يقترن بنوع من الخوف والتوجس لدن كثير من الناس ولاسيما في ليلة القدر، فلا شك أنهم يؤمنون بأنها خير من ألف شهر وأن قيامها له فضل كبير، لكنهم أحاطوها بهالة من التقاليد والأساطير والمعتقدات عكرت عليهم صفوها وذكروا من ذلك إطلاق سراح مردة الجن وانتشارهم في الفضاء وانتشار الأشباح وتحرشاتها بالناس. ومن بين تلك الأساطير أسطورة رأس الحمار المشهورة، زعموا أنه يظهر لبعض الناس ليلة القدر رأس حمار بلا جسم فيقول له: قل ما تتمنى أحصله لك. فاتفق أن تعرض لرجل معروف بالجبن فقال له: قل ما تتمنى قال: أتمنى أن تخرج عني فورا فلا تراني ولا أراك فأرسلها مثلا".
وفي محور "مكانة الصوم في المجتمع الشنقيطي" تحدث ولد عبد اللطيف، قائلا "جعل المجتمع الشنقيطي وجوب الصوم هو نقطة ابتداء المسؤولية الاجتماعية دون غيره من أركان الإسلام".
المحاضر في المحور الثالث "رمضان والأخلاق والعبادة"، قال إن الشناقطة "كانوا يقرأون فيه صحيح البخاري في المسجد عادة وما زال تقليدا معمولا به في بعض المدن القديمة والجوامع الجديدة"، مضيفا "يحاول الكثير من الناس في رمضان تطبيق النصائح الواردة في المقطعات الشعرية التي يذكرهم بها الوعاظ وفيها يحثونهم على تجنب اللغو واللهو كقول بعضهم:
إذا لم يكن في الأذن مني تصامم وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحسبي إذن من صومي الجوع والظما
فإن قلت أني صمت يوما فما صمت
ومنها:
لا تجعلن رمضان شهر فكاهة تلهيك فيه من القبيح فنونه
واعلم بأنك لن تنال ثوابه حتى تكون تصومه وتصونه
أما في المحور الرابع "رمضان والشعراء" ققال ابن عبد اللطيف "رمضان شهر تصفد فيه الشياطين وورد ذلك في الحديث ومعلوم أن الشعراء لهم علاقة وطيدة بالشياطين منذ عهد أعشى قيس وعبيد بن الأبرص ويبدو أن الإسلام لم يقض على كل ذلك بل ما زالت هنالك ثمالة من تلك العلاقة ولعل ذلك هو السر في كوننا لا نرى الشعر يزدهر في موسم رمضان ازدهاره في غيره".
وأضاف "وفي المحور الخامس "رمضان مربد العلماء"، قال المحاضر "من أحسن ما جادت به عبقرية سياساتنا سن ما يسمى بالسهرات الرمضانية وهي عبارة عن نواد تظهر في التفلزة وفي الإذاعة ويتفقه فيها العامة في أمر دينهم ويسألون أهل الذكر عن كل ما ينوبهم في عاداتهم وعباداتهم وإلى جانبهم جماعة من خيرة حكماء الأطباء يعينونهم في تدبير صلاح أبدانهم زمن الشهر المبارك وينتج عن ذلك تناغم أصبح به الفقيه طبيبا والطبيب فقيها ومن المفارقة أن اللفظين مترادفان أصلا في وضع اللغة العربية. هذا جانب من القضية.
وجانب آخر هو آن هذه السهرات الرمضانية كانت بمثابة مربد البصرة في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني الهجري يرد إليها العلماء الجدد كما يرد المربد الثنيانيون من الشعراء فيستفتي الناس هؤلاء العلماء الجدد ويفتونهم ويشتهر بذلك علمهم وينتشر نفعهم في المجتمع وقد يجد فيهم المستفتي من يخرجه من ورطة يمين أو التزام معين لم يجد منه غيره له مخرجا. فلا شيء أنفع للفقه وأشد إغناء له من لز بنات اللبون مع البزل القناعيس ويكون البقاء ـ بعدُ ـ للأصلح أعني الأصلح للمجتمع والدين".
وفي محور "رمضان ومشكلة ثبوت الهلال"، استشعر المحاضر معاناة الشناقطة من قضية ثبوت رؤية الهلال ودخول الإذاعة على الخط في مجتمع الستينات، وإشكالية اعتراف علماء البدو بتلك الآلة، مضيفا أنه تم اليوم تجاوز تلك الإشكالية بفضل المدينة والوعي، مذكرا بأن "مشكلة المستفيضة" ما زال فيها مجال للأخذ والرد ووقعت في شأنها سجالات شعرية بين مؤيد ومناهض.
واختتم الأديب ابن عبد اللطيف محاضرته بمحورها السابع وهو "عملية إفطار الصائم" التي أكد أنها "عادة متأصلة في التاريخ الإسلامي، مضيفا: "في عصرنا هذا فإن هذه العملية تقوم بها الدولة وتغطي كافة أنحاء الوطن وهي مقصورة على جماعات المساجد المسجلة لدى المصالح المركزية ولا حظ فيها لغيرهم. وتقتصر غالبا على التمر واللبن المعلب وشيء من أرز جيد. ولا شك أن أجر هذه العملية سيدخل منه نصيب لا بأس به في حساب كل مواطن ومواطنة"
وبين ابن عبد اللطيف مسألة مواد الإفطار وبعض الطرائف المرتبطة بها عند الموريتانيين كقولهم إن الإفطار بمواد معينة يورث أمورا معينة لها نصيب من طبيعة المادة التي يفطر بها الصائم.