قد لا نكون بحاجة لإعطاء معنى جديد لمفهوم "الشعب"، قدر هذه اللحظة العصيبة من تاريخنا المأساوي، ونحن نقف عاجزين مذعورين نشاهد الفعل المدمّر لقوى بصدد إرجاع شعوبنا إلى عشائر وطوائف متناحرة...، نحن الذين حلمنا بأن نجعل من هذه الشعوب المحرّرة من الاستعمار والاستبداد لبنات أمة بين كبرى أمم الأرض.
في آخر المطاف: ما الشعب؟ بين المغالاة في حبه والمغالاة في كرهه...، بين التكبّر عليه والتواضع له...، بين التدنيس والتقديس...، بين التعويل عليه وبين تجاهله التام...، بين ادعاء خدمته واستخدامه...، كم من علاقات معقدة ومشاعر متباينة وأفكار مبهمة!
كل هذا يستدعي وقفة تأمل لتفكيك مفهوم بالغ التعقيد نظريا، وله أبعاد عملية بالغة الأهمية في حياة كل فرد منّا.
في مقاربة أولى، يمكن القول إن الشعب هو مجموعة من البشر المتشاركين في جملة من الخصائص المتفرّدين بها، إذ لا وجود لشعب إلا بالمقارنة مع شعوب أخرى يتخذ منها موقعا محددا بعوامل التشابه وخاصة الاختلاف عنها.
المقاربة الثانية أن لهؤلاء البشر خصائص عامة قارّة وراء الاختلافات السطحية التي تميزهم عن بقية المجموعات البشرية الأخرى.
هم كائنات بيولوجية تتشكل من أحياء يسكنون بيوت الفضاء الحسي، ومن أموات يسكنون القبور وفضاء الذاكرة؛ ويتكون صنف الأحياء من ذكور وإناث، من رضّع وأطفال وشباب وكهول وشيوخ، من أصحاء ومرضى.
هم كائنات ثقافية تسكن لغة محمّلة بمخزون ثقافي هائل، صانعة ومصنوعة من قيم وأفكار وخيال وفنّ.
هم كائنات اقتصادية تنتج وتتبادل وتستهلك البضائع والخدمات في إطار علاقة تنافس شديد على موارد نادرة، وعلى الدوام سيئة التوزيع والاستغلال.
أخيرا لا آخرا، هم كائنات سياسية تعيش داخل رقعة جغرافية تحددت بظروف التاريخ، تسميها وطنا تدين له بالولاء والطاعة، ولديها استعداد للدفاع عنه لأنه الضامن لبقائها. هذا الوطن تحكمه دولة تدفع لها الضرائب وتنتظر منها بالمقابل الحماية والخدمات الضرورية؛ وهذه الدولة مسيّرة لمدة تطول أو تقصر، من قبل أفراد يتشاركون في نفس الرؤية للمجتمع، ونفس المصالح، ويشكلون ما نسميه النظام السياسي.
***
ثمة تداخل وترابط بين كل هذه المستويات، حيث لا مجال لوجود شعب بلا بشر أحياء يحفظون ذاكرة أمواتهم، أو بدون ثقافة وحياة اقتصادية، ووجود خارج فعل السياسة. فكل شخص مفعول به سياسيا من المهد إلى اللحد، حيث تتحكم في أدقّ تفاصيل حياته الشخصية، خياراتٌ تؤخذ من قبل الساهرين على تسيير شؤون الدولة، أو من معارضيهم.
هو أيضا رهان سياسي لأن الدولة أو المعارضة تسعى لدفعه للاصطفاف وراء خياراتها هي؛ تلك الخيارات التي قد تتماشى أو لا تتماشى مع مصلحته.
هو أخيرا فاعل سياسي عندما يتحرك لفرض حقوقه أو للمساهمة في رسم المجتمع الأفضل، الذي تتنازع حول تحديد ملامحه وبلورته على أرض الواقع تيارات عقائدية حاملة لرؤى متباينة.
خاصية أخرى بالغة الخطورة للشعب، أنه ليس كتلة متجانسة. هو دوما مجموعات يمكن تصنيفها حسب الطب إلى مرضى وأسوياء، وحسب التربية إلى متعلمين وأميين، وحسب الاقتصاد إلى فقراء وأغنياء، وحسب السياسة إلى مواطنين (أي الفاعلين السياسيين) ورعايا (أي المفعول بهم سياسيا).
تنبيه هامّ: هذا التصنيف الأخير ليس معياريا من نوع الأخيار والأشرار، بل هو موضوعي. هو لا يمجّد المواطنين ولا يدين الرعايا، مثلما أن الطب لا يمجّد الأسوياء أو يدين المرضى.
هو يهدف -كما يفعل الطب- للتمييز بين حالتين موضوعيتين للإنسان، قصد التعامل معهما بما تتطلّبه الوضعية، أي الدفاع عن صحة الأسوياء وعلاج المرضى كي يلتحقوا بصفّ الأسوياء.
"الظاهرة التاريخية أن المواطنة -في مستواها السياسي- توسّعت وتعمّقت في آن واحد. توسّعت للنساء وللجميع بإلغاء الرق. وتعمّقت إلى أن أصبح بإمكان المواطنين تعيين رأس الدولة وصرفه عن الخدمة، وهو أمر لم يكن قابلا للتخيّل عندما انطلق المشروع التحرري لكل هذه الشعوب"
أهمّ خاصية هي أن الشعب ليس معطى نهائيا، وإنما هو حصيلة تطوره التاريخي، وإلى حدّ ما حصيلة مشروعه المستقبلي إن كان له مشروع.
لننظر مثلا كيف تطور التوازن بين الرعايا والمواطنين لدى ثلاثة نماذج من شعوب العالم، عبر التاريخ.
في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد، كان المواطنون هم سكان أثينا الأصليين، الأحرار، الذكور والبالغون، أي أقلية لا تتجاوز العشرة في المائة من السكان.
في روما كان المواطنون هم الذكور الأحرار من القبائل الرومانية. وقد وقع توسيع هذه الصفة سنة 89 بعد ميلاد المسيح لتشمل كل سكان إيطاليا؛ ثم توسعت من جديد سنة 212 لتضم كل سكان الإمبراطورية الرومانية. لكن حق التصويت للنساء لم يمنح إلا سنة 1946.
في فرنسا ثورة 1789، اعتبرت الدولة الجديدة المواطنين هم من يعيشون في ظل سلطتها أيا كانت أصولهم، سواءً أكانوا من اليهود أو الكاثوليك أو البروتستانت. لكن النساء لم يتمتعن بحق التصويت إلا سنة 1944.
الظاهرة التاريخية أن المواطنة -في مستواها السياسي- توسّعت وتعمّقت في آن واحد. توسّعت للنساء وللجميع بإلغاء الرق. وتعمّقت إلى أن أصبح بإمكان المواطنين تعيين رأس الدولة وصرفه عن الخدمة، وهو أمر لم يكن قابلا للتخيّل عندما انطلق المشروع التحرري لكل هذه الشعوب.
نفس الظاهرة على بقية المستويات الأخرى حيث توسّع تدريجيا في جلّ البلدان عدد الذين خرجوا من الفقر والجهل والمرض.
بديهي أنه بقدر ما تفوق نسبة الأسوياء نسبة المرضى، والمتعلمين الجهلة، والأغنياء الفقراء، والمواطنين الرعايا، يكون الشعب قويا خلاقا مبدعا؛ مما يعني أن المشروع التحرري الذي يدفع بكل مجموعة بشرية إلى الأمام يؤدي دوما إلى تقدّم الإنسان وتقدّم الشعب ككلّ.
ثمة إذن حركة تاريخية جبارة تدفع بالمجموعات البشرية -بحظوظ نجاح متباينة وبسرعة مختلفة- نحو أفق تتحقق فيه إنسانية الإنسان، وإنسانية المجموعة البشرية التي ينتمي إليها هو الذي أسميه شعب المواطنين، أي الشعب الذي تتمتّع أوسع أغلبية ممكنة فيه بحقوق الإنسان، وهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق السياسية والحقوق الفردية.
مما يعني أن المفهوم لا علاقة له -كما تصوّر البعض- بمواجهة مجموعة من المواطنين الواعين والنشطين في المجتمع، مع مجموعة أخرى تتسم بالسلبية والاستسلام للطغيان.
حراك شعب المواطنين إذن ليس حركة أرستقراطية جديدة في مجتمع يعاني من كثرة الأرستقراطيات الكاذبة. إنما هو وعي بحركة التاريخ التي تدفع بنا جميعا للوصول إلى هدف ما زال بعيدا. هو الفعل السياسي المجنّد للتسريع بتحقيق الهدف حتى نشكّل جميعا شعبا أرستقراطياً ليس فيه إلا النبل والنبلاء.
ما مواصفات مثل هذا الشعب؟ كل مكوناته أو لنقلّ جلّ مكوناته (الجنسان، الأجيال، الطبقات، الجهات، التيارات العقائدية):
1- تعيش بسلام دائم ومتين بينها، نتيجة تعلّمها فضّ خلافاتها بالوسائل السلمية، مثلما تعيش بسلام مع بقية الشعوب الأخرى.
2- لا تقبل تعدديتها من باب التسامح فحسب، وإنما تعتبر هذه التعددية ثروة وطنية وتحافظ عليها وتنميها.
3- تمارس وتتمتع بكافة الحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
4- تعتبر وتلتزم بكون قائمة الحقوق هذه هي نفس قائمة الواجبات.
مثلا حقي في الرأي هو واجب الآخر في احترام حقي في الاختلاف معه، مثلما حق الآخر في الرأي هو واجبي في احترام حقه في الاختلاف معي. فإعلان 10 ديسمبر/كانون الأول 1948 في الواقع عندما نقرؤه بتمعن، هو إعلان عالمي لحقوق الإنسان وواجباته.
5- تبلور داخلها كل طاقات الخلق والإبداع لتساهم في تقدّم الحضارة البشرية.
***
"حراك شعب المواطنين ليس حركة أرستقراطية جديدة في مجتمع يعاني من كثرة الأرستقراطيات الكاذبة. إنما هو وعي بحركة التاريخ التي تدفع بنا جميعا للوصول إلى هدف ما زال بعيدا. هو الفعل السياسي المجنّد للتسريع بتحقيق الهدف حتى نشكّل جميعا شعبا أرستقراطياً ليس فيه إلا النبل والنبلاء"
قبل أن نتحسّر على بعد أغلب شعوبنا من هذا الأفق وكيف أن منها من يتخذ الطريق المعاكس أي نحو التفكّك والتوحّش، علينا التساؤل عن العوائق التي تسدّ أمامنا الطريق.
إنها ثلاثة بالأساس:
أ- الندرة في الموارد و/أو سوء استغلالها: كل الشعوب تنطلق من حالة نقص في ضروريات الحياة وفي كمية المعلومات الضرورية لتحسين ظروف العيش. هذه الندرة هي التي نحاول القضاء عليها بالإنتاج المادي والفكري.
وتبقى كل أعمالنا تلهث دوما وراء تزايد البشر وتزايد الحاجيات وتعقيد سبل إرضائها. فالآلة الاقتصادية التي تسعى لتوفير حاجياتنا المادية، مثل الآلة الفكرية التي تنتج لنا الأفكار والقيم والقوانين، دوما دون المستوى المطلوب، ناهيك عن رداءة ما تنتجه أحيانا وقدرتها على خلق مشاكل مضافة.
ب- الغريزة البشرية: تجاه هذا الوضع المفروض علينا، نميل بصفة تلقائية إلى محاولة الاستحواذ على أكبر قدر من غنيمة لا تكفي للكل، تدفعنا لهذا غريزة متأصلة فينا، هي الظلم.
كم صدق أبو الطيب في قوله:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفّة فلعلة لا يظلم
لكن كم كذب أيضا وهو لا يصف إلا النصف الفارغ من الكأس. فلو كانت هذه الغريزة هي وحدها الفاعلة لما ألغينا الرقّ وحاربنا الفساد واخترعنا القضاء المستقلّ والضمان الاجتماعي.
ثمة داخلنا مطلب غريزي مناقض لا يقل قوة، وهو ما يمكننا من معارضة البيت الشهير دون التعسّف على الواقع:
والعدل من شيم النفوس فإن تجد *** ذا زلّة فلعلة لا يعدل
ج- صراع آليات التعديل: لمواجهة الندرة وفي إطار الصراع المزمن بين غريزتيْ الظلم والعدل، تتشكل مجموعات سياسية متصارعة لمحاولة فرض مصالحها ومبادئها، تحت ستار مصلحة عامة كثيرا ما يتضح أنها تخدم المصالح الخاصة أكثر مما تخدم المصلحة العامة.
هكذا تتبلور وتتوالى النظم السياسية وهي لا تعكس إلا سيطرة مجموعة على بقية مكونات الشعب. ففي تونس بعد الاستقلال عشنا تحت سيطرة دولة تدّعي أنها دولة الجميع، والحال أنها كانت تتعامل فعليا مع شعب مقسّم إلى مواطنين من الدرجة الأولى (تنظيمياً: الدستوريون أو البورقيبيون، أيديولوجياً: العلمانيون، جهوياً: سكان منطقة الساحل)، ومواطنين من الدرجة الثانية (تنظيميا: كل المعارضين، وأيديولوجياً: كل العروبيين والإسلاميين، وجهوياً: باقي سكان جهات الجمهورية.)
هذا التنظيم لم يكن استثناء تونسيا بل هو القاعدة في كل أقطارنا العربية بحدّة متفاوتة، والقاسم المشترك أن هناك دوما جزءا يريد أن يحتوي الكلّ وأن يتكلّم باسمه. مثل هذا التنظيم هو الذي ولّد وسيولّد صراعات تنتهي عاجلا أو آجلا بالثورة إلى مصير مباين لها.
***
ليس من قبيل التجني على النفس أو على أحد القول إن الخراب المتفاقم حولنا ليس إلا المظهر الخارجي والنتيجة الحتمية لخراب داخل العقول والأرواح.
ثمة خراب العقول وقد استشرى التعصب لهذه الأيديولوجيا أو تلك، فصرنا بين فكيْ كماشة التعصب الديني والتعصب العلماني، و"كلٌّ على كلٍّ زارٍ وله عدوّ وعليه عاتب" كما يقول ابن المقفع.
"أهم عنصر لخرابنا الفكري هو رفض التعددية. هذا الرفض ظاهرة جديدة علينا، بعنفها وشموليتها، وقد كنا إلى أمد غير بعيد مجتمعات يُضرب بها المثل في التسامح. وهذا ما أنتج لدينا أحزابا تبارت في رفض الآخر والادعاء بأنها وحدها تملك مفتاح كل المشاكل، ناهيك عن تشكلها كتنظيمات هرمية غير شفافة وعرضة سريعة للفساد"
أهم عنصر لهذا الخراب الفكري هو رفض التعددية. هذا الرفض ظاهرة جديدة علينا، بعنفها وشموليتها، وقد كنا إلى أمد غير بعيد مجتمعات يُضرب بها المثل في التسامح. هذا ما أنتج لدينا أحزابا تبارت في رفض الآخر والادعاء بأنها وحدها تملك مفتاح كل المشاكل، ناهيك عن تشكلها كتنظيمات هرمية غير شفافة وعرضة سريعة للفساد.
ثمة وراء هذا الخراب خراب القيم التي لم تعد تشمل الاحترام والرحمة والمحبة والتسامح. الشيء الذي قادنا إلى الفظاعات التي نراها في موت الأطفال جوعا في مخيم اليرموك، وذبح الرهائن على الهواء، وتبييض الثروات في بنوك نهب الأمم.
النتيجة دوما مقولة "طبّها فعماها"، أي أننا أمام آليات سياسية تحاول أن تكون الحلّ لكن جهلها وتجاهلها لعبر التاريخ وتعقيد المجتمعات يجعل منها المشكل الرئيسي، بما يعنيه هذا من آلام فظيعة للملايين وإهدار للطاقات وللوقت، الذي تخصصه الشعوب المتحررة للتقدم المطرد نحو آفاق نبتعد نحن عنها بنفس الوتيرة.
***
كل وضع -وخاصة الوضع المأساوي الذي نعيشه اليوم- يتطلب إجابات تقطع مع الحلول التي أثبتت عجزها.
في هذه المرحلة من التاريخ نحن بأمس الحاجة لتعديل آليات التعديل السياسية، وهي الوحيدة التي نستطيع العمل عليها، إذ لا قدرة لنا لا على تغيير طبيعة البشر ولا طبيعة العالم.
نحن بحاجة إلى حركات سياسية جديدة لا تجتمع حول أيديولوجيات مغلقة وإنما حول أهداف سياسية وحلول عملية للمشكلات الخمس الكبرى: الفساد، التوزيع الظالم للثروة الوطنية، غياب الحريات الفردية والجماعية، رفض التعددية بكل أصنافها، تفاقم العنف داخل المجتمع، سواء تشكل إرهابا محضا أو جرائم وانتحارات واعتداءات لفظية، كالتي يزخر بها إعلام غير مسؤول وفضاء افتراضي أصبح جزء كبير منه مجاري صرف ومستنقعات قذرة يخشى المرء الاقتراب منها.
إن خطورة الوضع تتطلب من شباب تونس والعرب، التقدم لقيادة المشروع التحرري -وأفُقه شعب المواطنين- عبر بناء شبكات سياسية شابة تكون الوحدة الوطنية عندها خطّا أحمر، وتتجمع لا حول أيديولوجيات لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من أمامها (فكلها مصيرها الفشل عاجلا أو آجلا)، وإنما حول أهداف سياسية تلتقي حولها كل الطاقات الخيرة، وهي موجودة في كل الأحزاب وكل العقائد (كما توجد الطاقات الشريرة في كل الأحزاب وكل العقائد) تاركة لكل واحد حق الضمير والمعتقد.
على هذه الشبكة السياسية -إن أرادت أن تواكب مجرى التاريخ وتطلعات شعوبنا- أن تعلن بكل وضوح أنها لا تنوي التطبيع مع النظام القديم وتحسين شروط العبودية، وإنما القطع معه، لكن مع التمسك بالطرق السلمية والتزام خيار القوة الهادئة التي لا تهادن ولا تتشنّج.
عليها أيضا أن ترتبط ارتباطا وثيقا وأن تنسق مع شبكات المجتمع المدني التي ستلعب دورا سياسيا بامتياز، قد يؤهلها هي لا الأحزاب لقيادة حراك شعب المواطنين.
إن التكنولوجيا الحديثة تعطي اليوم وسائل هائلة للتنظّم وتبادل المعلومات والخبرات والتجنيد، وتبلور سلطة تنبثق من تحت إلى فوق عبر بناء شبكات التعاضد والخدمات في كل المستويات. وكلما زاد استخدام هذه الوسائل الجبارة ارتفعت قدرة المواطنين الفعليين على توسيع وتعميق المواطنة الحقيقية أي الشراكة في تقرير المصير الجماعي.
قيل عن الحرب إنها أمر أخطر من أن يترك للعسكريين، ويمكننا أن نقول إن السياسة أمر أخطر من أن يترك للسياسيين.
كل التجديد المنشود في أشكال النضال السلمي لا يكون إلا بتجديد جذري في منظومة الأفكار، أي أن على الحراك السياسي والمدني أن يعكس حراكا داخل العقول يعصف نهائيا بالمنظومات الفكرية الجامدة والشمولية، التي تدفع للتعصب والغرور ورفض الفكر الآخر وعدم اعتباره وجهة نظر شرعية تعكس تعددية موجودة إلى الأبد.
سريعا سيتضح أن المرونة الفكرية وحس النقد الذاتي والتفتح الدائم على الآخر هي أيضا بالأساس مواقف أخلاقية، فلا أفكار فعّالة دون سند أخلاقي متين.
هنا يأتي التذكير بأن أهم ما كرهه الناس في السياسة -كما تُمارَس أغلب الوقت- هو نفاقها المفضوح وهي تدعي الدفاع عن قيم، بيدَ أنها على أرض الواقع لا تمارس إلا المكيافيلية في أحطّ أشكالها، شعارها في ذلك "الغاية تبرر الوسيلة".
إن أي فاعل سياسي يريد الانخراط في حراك شعب المواطنين مطالب اليوم بفهم قوة المطلب الأخلاقي داخل مجتمع مفتوح لم تعد تنطلي عليه الحيل الساذجة. وإن على كلّ شاب طموح يريد أن يصبح زعيما أن يتذكّر دوما أن السيد ليس من يعطي الأوامر، إنما السيد من يعطي المثل.
المصدر : الجزيرة