لست بصدد كلام جهوي ولا قبلي ولست ممن يعتبرون ثروة الوطن كعكة يتداعى إليها الطفيليون وشذاذ الآفاق لتقاسمها قسمة ضيزى على حساب شعب محبط مغيب .. ولست من ممتهني عذيطة جلد الذات والركون إلى يافطة المؤامرة الوهمية التي يحتمى خلفها الضعفاء ومن لا يريدون الإصلاح والتغيير .. وكنت وما زلت أتطلع للتسامي نحو سقف المواطنة السوية التي تنتهج حكامة العدل والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه ومقدار عمله.
لكن الكيل طفح فإقصاء مقاطعة بتلميت شيء تجاوز كل الحدود وأصبح السكوت عنه فى خانة عدم تغيير المنكر ، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
طبعا لا تهمني بتلميت لذاتها ولست حتى من سكانها المباشرين وإنما يهمني ما تمثله من عينة صارخة لصنوف الاقصاء الوطني الممنهج قد لا تكون الوحيدة لكن إماطة اللثام عن شيء من مظاهر الظلم يساهم فى تعرية الموضوع برمته عبر ربوع الوطن.
مقاطعة أبي تلميت مقزمة فى حدودها الإدارية التي رسمت ووضعت من طرف أنظمة أحادية شعبوية لغايات غير نبيلة على خلفية معاقبتها بجرم لم تقترفه كي تتحول إلى كانتون جبري ينفى إليه كل من حملوا ويحملون خيارات أخرى للوطن الموريتاني ، رغم أن حدودها التاريخية والبشرية والثقافية والفكرية والسياسية والرمزية والإقليمية أكبر وأبعد بكثير من واقع التقطيع الإداري فهي كانت وما زالت وستظل قلب الوطن النابض وعقله المستنير الفاعل فى تدبر الموجود واستشراف الموعود.
بتلميت هذه المغيبة المنسية من المدن التي أعطت للبلاد مشروع دولة ورؤية مستقبل ولم يكن قط فى جعبتها إلا الدولة وما يصون المصالح العامة لذالك اختارت عن وعي أن ينطلق إسهامها من بناء إنسان موريتاني مسلح بالعلم والمعرفة وفوجت منذ مطلع القرن الماضي أبناءها نحو التعليم النظامي والتعليم بكل أوجهه وفتحت أحضانها عبر مؤسسة أصيلة ورائدة هي معهد أبي تلميت الاسلامي لكل الموريتانيين والأفارقة والمسلمين الراغبين فى تعليم حداثي وسطي أصيل ومغاير ، فأنجبت آلاف الأطر الأكفاء فى شتى المجالات وما زالت تنجبهم رغم الحيف وقساوة الظروف.
لقد راهن سكان المدينة وبالمناسبة هم عينة حصصية تمثل كل الوطن على العلم والمعرفة فى حين راهنت مدن ومجموعات أخرى على التجارة وراهن آخرون على الزراعة وتوجه آخرون لأشياء أخرى .. وفى ظل دولة عادلة كان يمكن لمراهنات الجميع أن تكون مفيدة ومحققة للتكامل لأن الوطن يتسع لاجتهادات الجميع وكلما تزاحمت العقول خرج الصواب لكن الرياح جرت بما يخالف المنطق فغابت معايير الكفاءة والنجاعة وأصبحت وظائف الدولة وصفقاتها ومنافعها تقسم وفق نزعات شعبوية عبثية وجزافية فى أحيان كثيرة واختلط الحابل بالنابل وتحولت الدولة إلى محاصصة زبونية تتجاهل كل المعايير الموضوعية.
ستكون الصورة أوضح عندما تدركون أن المنتمين لمدينة بتلميت وحدهم يشكلون الآن أزيد من 18 ألف إطار عال ومتوسط من بينهم:
ــ 41% من أطباء موريتانيا لا يحتل أي منهم موقعا قياديا فى تشكيلات الصحة العمومية المختلفة.
ــ 35% من مهندسي موريتانيا الأكفاء لا يحتل أي منهم موقعا قياديا فى أية هيئة فنية وطنية.
ــ 30% من الأساتذة الجامعيين لم يتبوأ أيا منهم موقعا قياديا فى الجامعات.
ــ 35% من المعلمين وأساتذة التعليم الثانوي والمفتشين لا يدير أي منهم مؤسسة تعليمية مهمة.
ــ 28% من المحامين الموريتانيين قلما يحصلون على تعاقدات مع مؤسسات الدولة الكبرى.
10% من سلك ضباط الجيش وقوى الأمن لا يصلون الرتب العليا وهم آخر من تسند له موقع القيادة فى قطاعه.
ــ 18% من رجال الأعمال المتوسطين والصغار الديناميكيين الذين يعانون من انعدام أسس التنافس الشريف وتوضع أمامهم عراقيل تحد من حصولهم على أية صفقات عمومية يخسرونها عادة على الهوية.
ــ 7% من الصحفيين المهنيين الذين يغيبون عن المشهد لانعدام المعيارية المهنية.
30% من النسيج المحظري الوطني المغيب والمهمش.
ورغم هذه المعطيات لكم أن تراجعوا مراسيم التعديلات وتشكيلات الحكومات وبيانات مجلس الوزراء خلال العشرية الأخيرة وتتوقفوا قليلا عند خانة الاجراءات الخصوصية عندها ستدركون مرارة الظلم والاقصاء والشعور بالغبن التي يشعر بها إخوان لكم راهنوا على الدولة وعلى العلم والمعرفة والعمل ليجدوا أنفسهم ضحايا قسمة "أرتمتيكية" جائرة للوظائف .. تصوروا شعور مهندس الدولة الذي يدرس ويكد على مدى 28 سنة ويتخرج من كبريات مدراس العالم لكي يجد نفسه فى الشارع .. وتصوروا أستاذ الطلب المبرز الذي تسد أمامه دروب المسؤولية الصحية العمومية لأنه اعتمد على كفاءته وترفع عن الوساطة .. وتصروا شعور الخبير المالي والاقتصادي الذي راهن على الخبرة فأبطأ به انتماؤه الجهوي .. وتصوروا حجم المرارة التي يشعر بها وزراء سابقون مشهود لهم بالكفاءة والاستقامة لم يقصروا بعملهم وإنما طالتهم عبثية التعديلات مع آخرين أقل خبرة تمت رسكلتهم وإعادة توظيفهم فى مواقع أخرى ، أما هم فقد تركوا وشأنهم لمجرد انتمائهم وتعففهم عن الانبطاح .. وتصوروا رجال أعمال أذكياء حازوا على رأس مالهم بعرق جبينهم وطفقوا يحاولون إنشاء مقاولات مدرة للدخل مستقطبة لليد العاملة منتجة لأمور تنفع الناس وتمكث فى الأرض سدت امامهم طرق المبادرة لمجرد انتماءاتهم الجهوية .. وتوقفوا قليلا عند أسماء من يفوزون بصفقات التراضي ومن تخلت لهم الدولة فى الماضي عن مؤسسات القطاع العام فى مستهل عهد الخوصصة الجائرة .. وتصوروا آلاف أبناء المدينة الموالين للنظام الحالي والمدافعين عنه الذين يتم تجاهلهم ولا تتم مكافأتهم أبدا ، ويصدق فيهم قول الشاعر:
(وإذا تكون كريهة أدعى لها *** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب)
لقد ادت كل هذه الممارسات وأدى هذا الغبن وهذا الظلم إلى هجرة عقول أبناء أبي تلميت إلى الخارج فيقدر الآن عدد الأطباء والمهندسين والاقتصاديين والباحثين من مختلف التخصصات المنتمين للمدينة المتواجدين فى الولايات المتحدة ودول الخليج ودول أوروبا الغربية وبعض دول العالم الأخرى بـ 1278 إطارا ساميا فضلوا البقاء هناك وحرم الوطن من خبراتهم النافعة ، والمؤسف أن هجرة الأدمغة فى تزايد مستمر لأن عوامل الجذب غابت وحلت محلها ممارسات ملتوية حولت الوظيفة العمومية وكل وظائف القطاعات العامة والخاصة إلى وداديات مقيتة لعديمي الكفاءة مما أثر سلبا على المرفق العمومي وجعل المواطن يدفع الثمن باهظا كل حين.
يحدث كل هذا فى دولة تدعى أنها تحارب الفساد وتسعى لإرساء حكامة رشيدة ومحاربة الفساد تبدأ بتحقيق العدل والعدل يقوم على مساواة الفرص وعلى منح كل ذي حق حقه ومقدار كفاءته وعمله بغض النظر عن أية خلفيات قبلية أو جهوية .. المرجعية الراجحة يجب أن تكون مرجعية الوطن مرجعية الكفاءة والنزاهة والاستقامة.
لقد طفح كيل الاقصاء وغياب المعيارية وعانت بتلميت ومناطق كثيرة من البلاد من تراكم ممارسات سلبية عائقة للتنمية والتقدم وحان وقت إجراء المراجعات الحاسمة حان وقت الرجوع إلى الحق ، فالدولة لا تطلب منها وظائف ولا إكراميات وإنما ينتظر منها انتهاج معايير شفافة للمنافسة تضمن العدل بين أبناء الوطن أيا كانت مدنهم وانتماءاتهم لكنه على الدولة أن تدرك أن الاقصاء تجاوز المستوى الحدي للقبول ولم يبق متسع من الوقت قبل مباشرة الاصلاحات الكبرى مهما كانت مؤلمة ، ولم يعد ممكن دفن الرؤوس فى رمال الصور النمطية الكاذبة.
محمد تقي الله ولد الصبار – معلم / لبراكنه