الخنق تضييق مجاري النفس والدم على الحي ، ويكون ذلك في أحيان كثيرة لترويعه، وإشعاره بالسيطرة عليه، حتى يفزع فزعا يستحضر معه صورة الموت دائما، عندما يفكر في العصيان أو المخالفة، أو الاستقلال عن الخانق، الذي ما خنقه إلا لمال عنده، أو منفعة لديه يخنق عليها، أو خوفا من شعوره بالعزة والكرامة، فيطلب عوضا على ما عنده من مال، أو خيرات ، أو يبحث عن بديل آخر يتعاون معه أو يتعامل تعاملا يقترب من الندية، أو تبادل المصالح المشتركة.
وقد تعرض العرب بد سقوط هيبتهم وارتحال عز الخلافة والملك عن ساحتهم إلى خنق من الشرق والغرب، فتارة يخنقون على أن لهم دينا سماويا يجتمعون حوله، ويعتزون به ويطبقونه، ويجعلونه منارة لحضارتهم ومشعلا لروح الإباء والكرامة فيهم، وتارة يكون الخنق على وحدتهم في اللغة والعادات، ووحدة الصف وتقارب البلاد والجنس الواحد، وما يخشى من ذلك عند استحضار العصبية الجنسية التي يلجأ إليها الأقوام عند اشتداد الخنق والتضييق، وتارة يكون الخنق على الموارد الطبيعية، كالخامات والمعادن الثمينة، والخيرات الطبيعية الأخرى التي أودعها الله تعالى في بلادهم، وتارة يخفى على الناس أسباب ذلك الخنق المتواصل، حتى يكتشفوا أن وراءه دوافع سياسية وتاريخية واستعمارية.. وكان هذا الحي الذي يخنق يحس بالخنق، ويتحرك، ويقاوم، ويبدي رفضه لذلك الخنق المتواصل، ويسعى رغم كتم الصوت إلى إسماع الآخرين صوته ليطالب بنجدته، والسعي في تخليصه من أيدي الخانقين، الذين يكتمون صوته، ويحبسون أنفاسه، لأن انبعاث الصوت منه دليل على طمعه في الحياة والحرية في اختيار البقاء، ولكن الخانقين في هذه الأزمان خالطوه، فالتبسوا عليه لشدة مخالطتهم له، وتمكنهم من التلاصق به ليكون الخنق داخليا، والحركة الاضطرارية غير مشاهدة، والصوت غير مسموع، فارتخت الأطراف وارتعش الجسم العربي حتى انقطع الدم والهواء عن بعض الأطراف وتقلصت حركة الدماء النقية في بقية الجسم، وهذه المرحلة عادة يلحقها الشلل المقعد بقية الحياة لهذا البدن، وخصوصا أن الطمع في المنعشين متوجه إلى الخانقين، ولكن لما كان هذا الجسم العربي لم يستسلم عبر التاريخ لهذا الخنق وظل يتحرك يمنة ويسرة ويرفض أن يصل إلى درجة الإنعاش والغيبوبة أو الشلل النصفي ، بقي حيا، يخشى الخانقون من عودة الدماء لبقية الأطراف، فتتحرك بقوة تنشط الدم النقي فيتدفق، بحرارة تكفي للتخلص من جميع الخانقين وتعيد العافية والصحة لهذا الجسم المقاوم. وقد تحمل كثير من حكام العرب خُفية كثيرا من الخنق المروع، والتهديد بالتضييق حتى الهلكة، وتآمر عليهم الغرب والشرق، فمنهم من قتل مقاوما، ومنهم من مات تحت المخنقة بدون علم من الشعوب العربية، وهي تلومه وتشغب عليه، ومنهم من استسلم للخنق المتواصل حتى فقد الشعور بأنه يخنق ويخنق،...
ولكن يظهر الآن أن الخنق يقع للحكام والشعوب معا، وأنه قد تحول من مرحلة الإخافة و الإرهاب من أجل الإبقاء على الطاعة المطلقة، واستنزاف الموارد، واستغلال الطاقات إلى مرحلة القتل والموت كما تموت البهيمة المخنوقة بحيث لا ينتفع بشيء منها لأنها جيفة، مكروهة منظرا ورائحة، فكل من يراها يبتعد عنها ويعاف الاقتراب منها،
ولكن الأمل رغم قوة الخنق شرقا وغربا يبقى لأهل الإيمان بالحق دافعا ومحركا ومخلصا...
د. محمد أحمد الأمسمي
أستاذ الأديان والفرق والاتجاهات المعاصرة بجامعة طيبة