ما إن تحل نازلة سياسية بالديار حتى تشرئب الأعناق استشرافا لما سيتخذ هذا العالم أو الشيخ أو ذاك من مواقف بخصوص النازلة أو الموضوع السياسي المحلي . وفي هذا النطاق "كم أرعفت وأرهفت يراعة " استهجانا لهذا الموقف أو استحسانا لذلك من مواقف سادتنا وعلمائنا ومشايخنا الأجلاء حينما يتخذون مواقف سياسية فينقسم القوم ما بين " عذول" يحتد ولما تبنوه ينتقد وبين " عاذر" يتفهم أو لما مالو إليه يعتقد..
وقد يتجاوز البعض تحت تأثير مواقف معينة حدود نقد المواقف السياسية المحلية والتحفظ عليها إلى ما يمكن أن يندرج في إطار الإهانة والسب والشتم مما يشكل زلزلة لقيم وأخلاق المجتمع وما هم فيها بمنصفين في حين ينبري آخرون ليعتبروا الموقف السياسي لفلان موقفا شرعيا يثاب فاعله ويعاقب تاركه وما هو ذلك.. وماهم فيها بصادقين .. ندري أنه من الأسلم والأنسب الحديث عن المواقف والمواقع بأسلوب يحفظ لهؤلاء هيبتهم ويحفظ للآخرين حق مخالفتهم في أمور"دنياكم" و يضمن حق التحفظ على بعض المواقف بأسلوب رصين ومتزن لايلغي "مكانتهم" العلمية وإن لم يعمل في هذا السبيل أو ذاك على "مكانتهم"السياسية.
وامتدادا لذلك وتجليا له نشاهد النقع المثار الآن بخصوص مواقف بعضهم من التعديلات الدستورية التي يتجه النظام لاستفتاء الشعب عليها.
ويمكن في هذا النطاق تسجيل مايلي:
لايمكن لأي منا أن يقول إن من حق كل المواطنين التعبير عن مواقفهم تجاه مختلف القضايا الوطنية إلا العلماء والمشايخ فنصبهم هنا على الاستثناء بعد إلا " مع تمام" –على حد تعبير النحاة- لايمكن أن يقول به من يؤمن بأن جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات ففي نهاية المطاف هؤلاء مواطنون يتمتعون بحقوقهم كامة ومصادرة هذه الحقوق تحت أي شعار أوفوق أي دثار غير مستساغ وغير مقنع وليس أسلوبا حضاريا ولا مدنيا ..فمن أنبأكم أن باءكم تجر عشرات الكلمات والمقالات و"باءهم" لاتجر؟
لذلك - بحكم "المواطنة" لهم الحق كل الحق مثلي ومثلك- في التعبير عن آرائهم والتصويت لما يرونه الأصلح ولأنسب والأقرب للإصلاح والرشاد .. والله حسيبهم في تلك الاختيارات ..ستكتب شهادتهم ويسألون.
غير أنه نظرا لثقل الأمانة التي يحملونها والخير الذي اجتباهم الله به حين فقههم في الدين وانطلاقا من نظرة "الهيبة والوقار" التي أسبغها عليهم العلم الشرعي لايمكن أن تكون آراؤهم وأقوالهم تقارن بأقوال غيرهم من حيث صداها ..لذلك فهم تحت "مجهر" الرأي العام مما يتطلب نهجا معينا والتخلق بسمات خاصة والتزام مجموعة من الضوابط حتى تظل آراؤهم السياسية في سياقها دون انحراف ذات اليمين أوذات الشمال ويظل تقديرهم في محله وهيبتهم في مكانها وإن اختلف البعض معهم في بعض التوجهات والمواقف السياسية.
نعم لمن آثر منهم الابتعاد عن هذه المواطن والتفرغ لتعليم الناس وإرشادهم الحق في ذلك ولالوم عليه وهذا حقه في أن يختار أن "لايختار" أو بالتعبير القانوني الانتخابي أن يكون تصويته بالحياد لكن إن اختار السير في ركب هذا التوجه السياسي أو ذاك في المشهد السياسي فهذا حقه بيد أنه لابد أن يظل وهو يتخذ موقفا سياسيا معينا محتفظا بهيبته ووقاره وأن يدرك أنه قد "يليق بنا مالا يليق بهم" وأن يدرك أنه يمثل نماذج تمشي على الأرض فلا وجه للهبوط في درك لايناسب مقامهم ولا يلائم مقالهم ولامجال للهبوط في شرك ودرك الدعاية السايسية الرخصية التي تأكل أخضر الأخلاق والشرف ويابسه و تحط من قدر ممارسيها أيا كانوا ويتأكد الأمر بالنسبة لساداتنا ومشايختا "لأن البياض قليل الحمل للدنس" وللأسف ابتلى الله بها كثيرا من أبناء هذا الشعب فسخروا أقلامهم وجهدهم ومواهبهم بشكل رخيص ومبتذل .كما أنه لايمكن أن يضع برزخا بينه وبين من يختلفون معه في بعض المواقف السياسية لأن اختلافهم "دنيوي" وعلاقته بالأمة وتنويريها علاقة "دينية"
-على سادتنا ومشايخنا أن يعملوا أن هذه القرارات السياسية في أغلبها قرارات"دنيوية" تتحرك في إطار "الجائز" ولا تعدو أن تكون خيارا محددا من خيارات تتساوى من حيث الحكم الوضعي وإخراجها عن هذا السياق المرن ووضعها في إطار ديني و إلباسها لبوس حكم غير حكمها فيه تجن على الشرع وفيه نوع من الاستفزاز الذي قد يحدث ردات فعل لا يرضاها الشارع ولا يريدها مشايخنا وعلماؤما الأجلاء
ففي نازلة التعديلات الدستورية ليس لأحدهم أن يقول إنها "أوامر الله" ولا لآخر أن يقول إنها "نواهي " فليس تغيير نشيد أوعلم طعنا في دلالة النشيد الدينية لأن النشيد المختار لاحقا قد يحمل نفس الدلالة أو يعززها أكثر ولا ضير أن نتخذ اليوم سورة الإخلاص شعارا وغدا نتخذ سورة العصر لمقتضيات معينة شعارا وقل الشيء ذاته في اختيار ألوان العلم.. يظل الأمر في حدود دائرة "الجائز" مالم يتضمن إثما أو عملا محرما أومجرما.. لكن ذلك لايلغي الرأي الآخر ولا يعني أن تغيير الدستور أو تعديله "أوامر شرعية" لازبة لمن ألقى السمع السمع وهو شهيد فذلك افتراء على الله تعالى ومنكر من القول وزور.
من حق سادتنا الأجلاء أن يتخذوا مواقفهم من التعديلات الدستورية وفق قناعاتهم لكن لاينبغي أن يكون ذلك باسم"الأمة" أو باسم "الشرع" لذلك ليس من المناسب هنا أن يتحدث أحدهم على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وباسمه عن ضرورة التزام موقف محدد من دائرة هذا التعديل "الجائز" ..فلا هو سيقنع غيره ولا غيره سيقتنع به وبخطابه .وليس لأحدهم أن يصدر فتوى تمنع هذا الرأي أو توجب ذلك مما فيه سعة وفيه مجال للاختيار كشأن التعديلات المقترحة حاليا . أما ان يرى أن الرشادا والسداد الدنيوي في هذا الخيار أوذاك فهذا حقه... لاشية في ذلك ولا غضاضة ولا حرج.
أعتقد أنه إن تمت مراعاة هذه الضوابط فليس لي ولا لك مصادرة حق يكفله القانون لساداتنا ومشايخنا .ولن تتأثر علاقتنا بهم و قناعتنا بضرورة تقديرهم واحترامهم تقديرا للشرع الذي تفقهوا فيه بناء هذا هذا الموقف السياسي أو ذاك.
بقلم: أحمد أبو المعالي