تعد الفترة الزمنية الفاصلة بين النصف الثاني من العام 2017 والنصف الأول من العام 2019 فترة زمنية حاسمة لإحداث التغيير في هذه البلاد المتعطشة إلى التغيير، وتعد الأشهر الأولى من هذه الفترة الزمنية هي الأشهر الأكثر حسما في تحديد اتجاه بوصلة التغيير، وبالتالي في تحديد المسار السياسي للبلاد خلال السنوات القادمة، بل وربما خلال العقود القادمة. ومن هنا فإن غياب المعارضة الموريتانية عن المشهد السياسي
وعن الساحة الاحتجاجية خلال شهري أغسطس وسبتمبر كان من الأخطاء الجسيمة التي لا يمكن السكوت عنها، ولا تأجيل الحديث عنها إلى النصف الثاني من العام 2019 وبعد أن تكون فرصة التغيير المتاحة الآن قد ضاعت وإلى الأبد.
لقد تعودت المعارضة الموريتانية ـ ومنذ انقلاب 3 أغسطس 2005 ـ أن تضيع فرصا ثمينة للتغيير، ولقد تعودنا من بعض قادتها أن لا يحدثونا عن الفرص الضائعة إلا من بعد فوات الأوان، قد يكون مثل ذلك كان مقبولا في الماضي، إلا أنه اليوم لم يعد مقبولا، خاصة وأن البلاد تمر بفرصة نادرة لفرض التغيير لن تتكرر في المستقبل المنظور، فالرئيس الحالي لا يجوز له ـ حسب الدستورـ البقاء في السلطة من بعد منتصف 2019، ولا الترشح من جديد لها.
ليس من مصلحة الوطن، ولا من مصلحة المعارضة أن نتجاهل أخطاء المعارضة، ولا أن نتجنب الحديث عن تلك الأخطاء، بل على العكس من ذلك، فإنه من واجب كل من يهمه أمر المعارضة ويحلم بالتغيير في هذه البلاد المتعطشة للتغيير أن يتحدث عن تلك الأخطاء، وأن يطالب ـ وبأعلى صوته ـ بالمسارعة في تصحيحها، وذلك حتى لا تضيع هذه الفرصة الثمينة لإحداث التغيير، كما ضاعت فرص كثيرة من قبل.
هذا ليس هو الوقت الأنسب لمجاملة المعارضة الموريتانية، ولذلك فإني لن أتوقف إطلاقا عن طرح السؤال : أين المعارضة؟ لن أتوقف عن طرح هذا السؤال إلا بعد أن تقرر المعارضة أن تقطع إجازتها وتعود إلى المشهد السياسي وإلى ساحات الاحتجاج.
إن التشكيلات والتكتلات السياسية ليست هيئات رسمية يحق لها أن تقتطع لنفسها عطلة سنوية، ويتأكد الأمر بالنسبة لمجموعة الثمانية، ويتأكد ذلك أكثر في الأشهر الأولى التي أعقبت حدثين سياسيين بارزين : تصويت الشيوخ ب"لا" على التعديلات الدستورية، ومقاطعة الشعب الموريتاني لاستفتاء الخامس من أغسطس.
لقد كان قرار قادة مجموعة الثمانية بالدخول في عطلة في هذا الفترة بالذات قرارا خاطئا، خاصة وأنه سيبعث برسائل في منتهى السلبية وفي منتهى الخطورة إلى جهات ثلاث:
الرسالة الأولى: إلى مقاطعي الاستفتاء
يمكن القول بأن أغلبية الشعب الموريتاني قد استجابت لخيار المقاطعة الذي نادت به المعارضة، وظهر ذلك من خلال بقاء مكاتب التصويت طيلة يوم الاستفتاء وهي خاوية على عروشها.هذه الاستجابة الواسعة التي رد بها الشعب الموريتاني على دعوات المقاطعة التي نادت به المعارضة، كان يجب أن تقابلها المعارضة بوقفات واحتجاجات فورية للدفاع عن خيار الشعب الموريتاني الذي عبر عن رفضه للتعديلات الدستورية من خلال مقاطعته الواسعة للاستفتاء.
كان على المعارضة أن تنظم سلسلة من الوقفات والاحتجاجات خلال شهري أغسطس وسبتمبر للدفاع عن خيار الشعب الموريتاني، ولكن المعارضة بدلا من ذلك قررت أن تدخل في عطلتها السنوية، ولسانها حالها يقول : شكرا للشعب الموريتاني على الاستجابة لنداءاتنا بمقاطعة الاستفتاء، ولكن لتعذرنا ـ أيها الشعب ـ فعطلتنا السنوية أولى من الدفاع عن خيارك.
الرسالة الثانية: إلى الجمهور المعارض
تحتاج المعارضة الموريتانية لأن تبذل جهدا كبيرا من أجل استعادة مصداقيتها لدى طائفة هامة من أصحاب المزاج المعارض، ولا شك أن هذه المعارضة قد بذلت جهودا هامة من قبل استفتاء الخامس أغسطس لاستعادة هذه المصداقية، وخاصة لما نزل قادتها إلى الأسواق وأمكنة التجمعات الجماهيرية لتعبئة الجماهير من أجل المقاطعة، وكذلك لما ظهر القادة وهم يتقدمون الصفوف ويتعرضون بالتالي لدخان القنابل المدمعة، ولكل أشكال العنف والتنكيل. بذل قادة المعارضة من قبل استفتاء 5 أغسطس جهدا كبيرا من أجل استعادة المصداقية، وكان عليهم أن يواصلوا في هذا الاتجاه، ولكنهم على العكس من ذلك، فقد اختاروا أن ينعموا بعطلهم السنوية بدلا من مواصلة جهودهم لاستعادة مصداقية المعارضة، والتي لا تزال استعادتها تحتاج إلى بذل المزيد من التضحيات من طرف القادة.
الرسالة الثالثة: إلى الأغلبية الصامتة والموالاة
لا خلاف على أن المعارضة الموريتانية هي بأمس الحاجة إلى استقطاب كل من يمكن استقطابه من الأغلبية الصامتة من الشعب الموريتاني، أو من الموالاة الداعمة للرئيس، وكلما تمكنت المعارضة من استقطاب المزيد من الأغلبية الصامتة التي تعودت على العزوف عن العمل السياسي، أو على استقطاب المزيد من الموالاة، فإن ذلك سيزيد من فرصها في كسب رهان 2019. اللافت في الأمر أن المعارضة التي حظيت في السابع عشر من مارس بأكبر دعم من الموالاة، لم تتعامل مع هذا الدعم بما يستحق، بل على العكس من ذلك فقد تركت الشيوخ يواجهون مصيرهم لوحدهم، بينما قررت هي أن تدخل في إجازتها السنوية. إن مثل هذا التصرف السلبي جدا قد يجعل كل من يفكر مستقبلا من الأغلبية الصامتة أو من الموالاة الداعمة في اتخاذ موقف لصالح المعارضة، سيجعله يفكر كثيرا من قبل اتخاذ ذلك الموقف.
الرسالة الرابعة إلى السلطة الحاكمة
لقد كان من المفترض أن تكون الأيام والأسابيع الأولى التي أعقبت استفتاء الخامس من أغسطس فترة نزال حقيقي وجدي بين السلطة والمعارضة، وذلك لأن السلطة ستسعى مستقبلا إلى تمرير نتائج استفتائها، وإلى تنظيم انتخابات تشريعية وبلدية بالإضافة إلى المجالس الجهوية، وستعمل السلطة على أن يتم تنظيم هذه الانتخابات تحت إشراف هيئات تم تشكيلها من طرف السلطة وما بات يعرف بالمعارضة المحاورة. مثل هذا المسار سيضع المعارضة في مأزق كبير، وسيقلل من إمكانية حدوث التغيير في منتصف العام 2019، بل أكثر من ذلك فإن مثل هذا المسار قد يؤدي إلى تفكك المعارضة، وإلى مشاركة بعض مكوناتها في أي استحقاق قادم، حتى ولو كان ذلك الاستحقاق قد جاء نتيجة لحوار لم تشارك فيه تلك الأحزاب، ولم تشارك بالتالي في تشكيل الهيئات المشرفة عليه (اللجنة المستقلة للانتخابات؛ المجلس الدستوري؛ الهابا..). أما المعارضة فكان عليها أن تبدأ العمل في وقت مبكر من أجل إيقاف مسار السلطة الأحادي، وفرض العودة إلى مسار جديد، يأتي بعد حوار جديد، تنتج عنه هيئات إشراف جديدة، مما سيساعد في زيادة حظوظ المعارضة في أي انتخابات قادمة.
إن الصراع بين السلطة والمعارضة في هذه الفترة الحاسمة هو صراع مسارات، فهل ستتمكن السلطة من تمرير مسارها الأحادي أم أن المعارضة ستفشل ذلك المسار وستفرض مسارا جديدا يشارك الجميع في رسم ملامحه؟
إن قرار المعارضة بالدخول في إجازة في هذه الفترة الحرجة جدا سيزيد من تمسك السلطة بمسارها الأحادي، وسيزيد من ثقتها بإمكانية تمريره، ومن هنا يتضح بأن دخول المعارضة في إجازة كان خطأ فادحا تجب المسارعة في تصحيحه.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل