بدأت ممارستي للسياسة مع نهاية ستينيات القرن العشرين. في سنة 1968 صرت عنصرا نشطا في مظاهرات وإضرابات التلاميذ، رغم كوني أنتمي إلى أسرة الرئيس الحاكم. في تلك الفترة، كانت موريتانيا تعيش تحت ظل نظام الرئيس المختار ولد داداه، الذي كان قد مضى على حكمه أكثر من عشر سنين؛ كنا ننتقد حكمه ونرى فيه وجه الاستعمار الجديد، وكنا نرفض نظام الحزب الواحد الذي انتهجه. كنا نرفض نمط حياة آبائنا ونتهمهم بأنهم يولون اهتماما كبيرا للأمور المادية وأنهم يتجاهلون معاناة العالم. وكنا أيضا ننتقد خياراتهم السياسية. الشباب اليوم لم يعد يحلم ولم يعد يُعنى بالسياسة وكل ما يهمه هو الاستقرار. لكن قلة عناية الشباب بالشؤون السياسية ظاهرة حديثة. في مرحلة الستينيات كنا لا نتردد في إسماع أفكارنا. كنا مطمئنين لمستقبلنا، فالبطالة لم تكن موجودة...
• إبان تلك الفترة، لم تكن الجامعة موجودة في موريتانيا وكانت مظاهرات الشباب تعني مظاهرات التلاميذ. في تلك الفترة، كنا متمردين على كثير من القيم التقليدة السائدة، وكنا نحلم بمجتمع جديد.. تتميز سن المراهقة بالإسراف والشطط في أمور الحياة، فكثيرا ما نتكلم عن "أخطاء مرحلة الشباب"، كما لو كانت الأفعال التي نقوم بها في هذه المرحلة من العمر تكون دائما ناتجة عن الاندفاع والطيش وعدم التفكير. لكني أرى أن اندفاعات الشباب هي في الواقع نوع من ممارسات المواطنة. فممارسات الشباب السياسية والاجتماعية تقوي روح المواطنة وتعد للقيام بدور المواطن الصالح. كنا ناقمين على الأرض كلها، كما يقول جُونِي هَالِدَيْ في أغنيته. كنا نهجر منازل أسرنا لنعيش في "القصور"، وما أدراك ما القصور: غرفة واحدة بدون أثاث. كنا نقضي فيها جل وقتنا، نعقد فيها اجتماعاتنا ونقرأ. كنا نكتب شعاراتنا على الجدران ونوزع المنشورات.
• انتميت إلى حركة القوميين العرب التي نشأت كرد فعل مباشر على هزيمة العرب ونكبة فلسطين والمشروع التغريبي ضدّ اللغة العربية؛ وكان عمري لا يتجاوز الأربعة عشر عاماً. في تلك الفترة لم يكن فكر البعث قد انفصل عن الحركة القومية عموماً. وكانت هناك ضرورة للاختفاء وللحياة التنظيمية السرية. تحمّلت المسؤولية الكاملة التنظيمية في قيادة الحركة الوطنية الديمقراطية التابعة لحزب البعث وساهمت في تشكيل جناح يساري ماركسي في الحركة، حيث قدت مع أخرين هذا الجناح الديمقراطي الثوري في صفوفها، قبل أن ينشق عنها في مرحلة لاحقة. كنا نحاول أن نتجاوز المدارس القومية التقليدية، وأن نتخطى اليسار الماركسي، الذي يتبنّى أممية لا ترى الحدود القومية، وقطرية تتجاهل الوجود القومي.
كثفت الحركة جهودها في البداية للدخول إلى المؤسسات التعليمية والعمال، والتغلغل داخل المجتمع من خلال النقاشات والمناظرات مع المنافسين حول أهداف ومبادئ القومية العربية، وضد المواقف الرجعية...
• كل اهتماماتنا كانت منصبة اتجاه الحركات الثورية في العالم الثالث: شي ڨيفارا Che Guevara وفيديل كاسترو Fidel Castro وهوشمينه Ho Chi Minh كانوا هم قدوتنا؛ وكنا نرى في اقتحام شباب الحرس الأحمر للساحة الصينية دليلا على أن الشباب يمكنه أن يجد لنفسه سلطة في المجتمع تمكنه من رفض سلطة الكبار والحكام. كنا أيضا نتابع باهتمام بالغ النضالات الدائرة في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل انعتاق السود والاعتصامات وسائر الاحتجاجات التي كان ينظمها الهبّي mouvement hippie والطلاب في العالم. الطابع الدولي لهذه الحركات جعلنا نضع أحداث موريتانيا ضمن ديناميكية عالمية.
• ابتداء من سنة 1968، وبعد القمع الشديد الذي ووجه به إضراب عمال ميفرما في ازويرات، اشتدت معارضتنا لنظام المختار ولد داداه وانطلق كفاحنا ضد الإمبريالية. إلا أن حنكة المختار ولد داداه السياسية مكنته من احتواء هذه المعارضة، عندما أخذ، ما بين 1972 و1974، سلسلة من الإجراءات المشهودة، كان من ضمنها مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا وإصدار عملة وطنية وتأميم ميفيرما، التي كانت بمثابة دولة داخل الدولة. بعد هذه الإجراءات، هرول كثير من المعارضين إلى دخول الحزب الواحد وانحسرت المعارضة، فصار المختار ولد داداه واثقا من نظامه ولم يتوان عن الارتماء في أحضان المغرب والزج بموريتانيا في حرب الصحراء. تزايد عبء الحرب بوتيرة سريعة وعرفت البلاد أزمة اقتصادية غير مسبوقة، فجاء انقلاب 1978 وبدأ حكم العسكر...
• في سنة 1977 نلت شهادة الباكالوريا وسافرت إلى فرنسا في منحة إلى المدرسة العليا للصحافة في باريس. وفي عام 1978، بدأت دراسة الفلسفة في جامعة السوربون، موازاة مع دراسة الصحافة. في الجامعة تعرفت على دومنيك بوياحيىDominique Bouyahia ، شاب من أب جزائري وأم فرنسية كان ينشط في أقصى اليسار الفرنسي. عرفني دُومِنِيكْ على رَني لَفوفْر René Lefeuvre رجل سبعيني، مؤسس دار اسْبَرْتَاكُوس SPARTACUS التي كانت تنشر، منذ تأسيسها عام 1934، كتبا تعنى بنقد اسْتَالِينِيّة وأنظمة معسكر الاتحاد السوفييتي. دعاني René Lefeuvre للإقامة في منزله، الذي كان في نفس الوقت مقر دار النشر وصرت عضوا في جمعية "أصدقاء اسباتاكوس Les Amis de SPARTACUS " التي كانت تدير الدار. أهدفنا كانت واضحة: إحياء الفكر الاشتراكي غير اللينيني non léniniste وتعميمه وفضح الجرائم التي ترتكب في الاتحاد السوفييتي بدعوى بناء الاشتراكية. سعى رَني لَفوفْر دوما إلى التعريف بنضالات العمال وإلى إلقاء الضوء عليها بروح نقدية. لقد علمته التجربة أن الثورات وسياسات الذين ينادون بالاشتراكية أو الشيوعية يجب أن تخضع لفحص نقدي كالذي يخضع له المجتمع الرأسمالي. هذا هو ما كان رَني لَفوفْر يسميه "الماركسية الحية".
• لم يكن الفوضويون Anarchistes يعدوننا من ذويهم، بسبب ما كنا ننشر من نصوص ذات مرجعية ماركسية، فيما كان الِّينِينِيُّون ينظرون إلينا كمشوشين، لأننا كنا ننشر أيضا نصوصا فوضوية. لكن ما كنا متأكدين منه هو أنه لا يهم إن كان النقد الراديكالي للمجتمع يأتي من ماركس أو من باكنين Bakounine ) مؤسس الفوضوية(. أذكر هنا موقفي، عندما عرض علينا تنظيم الفعل المباشر Action directe الإرهابي أحد نصوصه لنشرها. لم يتجرأ أحد من جمعيتنا لمواجهة الإرهابيين بقرار الرفض، فكنت الوحيد الذي واجههم به...
• بعد نيل شهادة الدكتوراه، غادرت فرنسا متوجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فاستقبلني بعض أفراد حركة "مناهضة الواقع الراهن" situationnistes الأقصى يسارية، والذين كانوا على صلة بجمعيتنا في فرنسا. مكثت سنتين في نيويورك أزاول وظيفتي كمستشار في الأمم المتحدة ثم عدت إلى بلدي وانخرطت في مشروع أول جامعة وطنية، فقمت بتأسيس قسم الفلسفة، وبدأت معاناة سياسية واجتماعية جديدة…
قصتي مع الفرنكوفونية
• إن الترحيب الكبير الذي لقيته مدينة الرياح، النسخة العربية من BARZAKH، جعلني أشعر بمدى ازدراء الفرنسيين للكتاب لفرنكفونيين. ف BARZAKHصدرت 1993 في باريس وبقيت مطمورة في مجاهل لفراكوفونية إلى يومنا هذا، لا لأن الرواية دون المستوى، ولكن لأن كاتبها عربي-إفريقي. وهو نفس المصير الذي عرفته روايتي الأولى L’AMOUR IMPOSSIBLE، التي صدرت في باريس سنة 1990، ولم يسعفها أن الناشر أعلن عنها واصفا إياها بأنها "رواية أفريقية في الخيال العلمي". رغم هذا فقد قمت في مطلع العام 2009 بتأسيس تجمع للكتاب الموريتانيين الناطقين باللغة الفرنسية، في محاولة لتجاوز الصراع التقليدي بين لفرنكوفونيين والمستعربين. لكني قدمت استقالتي من هذا التجمع احتجاجا على ما عاناه المسلمون في فرنسا بعد هجمات باريس. كما تنازلت عن وسام جوقة الشرف Légion d'honneur الذي تقلدت في فترة الرئيس جاك شراك.
• قد يتساءل المرء: لما هذا الإصرار على الفرنسية وجعل هذه اللغة الأجنبية لغة الكتابة الأولى؟ ذلك لأن اللغة الأجنبية تمكنني من النظر إلى نفسي وإلى الواقع من زاوية لا تتيحها اللغة الأم، فتظهر لي الحقائق من وجهة نظر أخرى. عندها أعبر عما أرى باللغة الأجنبية ثم أرجع إلى لغتي الأم لتأصيل ما كتبت. تعودت على نشر النص الفرنسي قبل تعريبه، لكني الآن صرت أكتب النص الفرنسي ثم أبقيه كمسودة وأعربه، قبل أن أعود إليه لأعدله على ضوء نسخته العربية. حدث ذلك مع روايتي حج الفِجار التي كتبت أولا بالفرنسية، في الفترة ما بين 2001 إلى 2003 ثم عُرّبت في الفترة 20032004- وصدرت عن دار الآداب سنة 2005، إلا أنها لم تنشر في نسختها الفرنسية إلا عام 2016.