د. سيدي أحمد ولد الأمير/
قصة العريف في مشاة البحرية الفرنسية "أرنيست مارت" (Caporal d'Infanterie de Marine) في محصر الترارزة، وكيف عاش مع الأمير اعلي ولد محمد الحبيب ومع أعمر سالم بعده قصة تناولتها الصحافة الفرنسية في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر وخصوصا سنة 1892، وجعلت منها مادة غرائبية وحديثا عجائبيا، وفصلتها تفصيلا وذهبت إلى تشبيه قصته بملحمة الأوديسة اليونانية الشهيرة في الآداب الأوروبية القديمة.
ملخص قصة هذا العريف الفرنسي التائه أن قائد أركان الجيش الفرنسي في اندر (سينلوي) استأمنه على مبلغ من المال فبذر منه أربعين فرنكا في ليلة حمراء من ليالي سينلوي.
ولما لم يجد ما يسدد به تلك الأربعين فرنكا ولم يكن أمامه سوى تعنيف قائد الأركان وتأنيبه وسجنه، فكر العريف وقرر الهروب، فألجأته المقادير منتصف مارس 1884 إلى محصر الأمير اعلي ولد محمد الحبيب، وكان المحصر بالقرب من ضفة نهر السنغال غير بعيد من سينلوي. وصل مارت إلى الحي الأميري وكان قد كاد يهلك عطشا فأقام هناك، في محصر الترارزة، سبع سنوات ونصف. وهذا يعني أنه أدرك سنتين وسبعة اشهر من إمارة اعلي، وأنه لم يغادر الترارزة حتى بدأت الحرب الضروس على الإمارة بين الأمير أعمر سالم وابن أخيه بيادة.
ذكر العريف مارت في "أوديسته الموريتانية" أنه تعود لبس الدراعة، ودرس القرآن الكريم، وعاش تحت الخيمة، وتزوج تسع مرات، ومارس التجارة، وتخلق بأخلاق الموريتانيين، ونفض مرابع إيكيدي وسهول آفطوط ومنتجعات إيشيري ومرتفعات تيرس نفضا. كتبت الصحف الفرنسية الكثير الكثير عن ما دونه مارت عن المجتمع الموريتاني عادات ومأكلا ومشربا وزواجا.
ذكر العريف مارت أن الأمير اعلي ولد محمد الحبيب امتنع من تسليمه لرسل والي اندر الفرنسي، وقد رأى الأمير اعلي في عدم تسليم مارت للفرنسيين عامل ضغط يمكنه من انتزاع بعض المنافع لإمارته، والتأثير في الموقف الفرنسي الذي كان يميل إلى مساندة أمير البراكنة سيدي اعلي الثاني ولد أحمدو ولد سيدي اعلي في نزاعه مع اعلي ولد محمد الحبيب.
ومن الطريف مما ذكره العريف مارت أن الأمير اعلي ولد محمد الحبيب مرض مرة فبعث والي اندر الفرنسي لويس بريير دو ليل (Louis Brière de l'Isle) بطبيب يسمى الدكتور غود إلى الأمير اعلي فعالجه فبرئ.
كما حضر العريف مارت قدوم الرحالة الفرنسي ليون فابير (Lëon Faber) على أحمد سالم ولد اعلي "بيادة" وذلك اثناء حربه مع عمه الأمير أعمر سالم ولد محمد الحبيب.
ويذكر مارت أنه كان يضع اللثام على وجهه، ولا يتحدث إطلاقا باللغة الفرنسية حتى لا تنكشف هويته ويعرفه أولئك الفرنسيون أثناء وجودهم في محصر الترارزة. كما أنه ذهب مرارا إلى سينلوي مع تجار موريتانيين فكان يخفي دائما هويته ويحرص على أن لا يظهر إلا بمظهر البدوي الموريتاني سلوكا ولباسا وحديثا.
والغريب عندي أن الرواية الشفهية المتداولة في منقطة الترارزة لا تذكر هذا الفرنسي ولا إقامته الطويلة بين ظهرانيهم ولا زيجاته الكثيرة، فهل كانت قصة مارت حقيقة كلها أم أنه زاد في روايته زيادة وأطلق أحيانا العنان لخياله فكتب أشياء منها الحقيقي ومنها المتخيل، ليشبع رغبة الإعلام الفرنسي المتطلع في نهاية القرن التاسع عشر لاكتشاف مجاهيل الصحراء الموريتانية؟
في سنة 1892، وحين كان بعض أحياء الترارزة تنتجع مناطق في تيرس والساقية الحمراء، هرب العريف مارت فأسره بعض الصحراويين، فأوهمهم أنه مبعوث من طرف أمير الترارزة للقنصل البريطاني في الطرفاية فأوصلوه إلى ذلك المرفأ المغربي الشهير، فالتقى بالقنصل الأنجليزي الذي وفر له المأوى وأبلغه مأمنه في اندر؛ حيث عاد من الطرفاية إلى سينلوي وهنالك سعى الوالي الفرنسي الجديد دو لاموت (Henri Félix de Lamothe) لدى قيادة الجيش الفرنسي حتى تجاوزت عن مخالفته وعفت عنه تلك السوابق في مقابل أن يصبح موظفا في إحدى الشركات الاستكشافية الفرنسية التي من شأنها أن تمهد للاستعمار الفرنسي في بلادنا متابعا محاولاته في التعرف على المجتمع الموريتاني. لكننا لا نعرف هل تم ذلك المشروع أم لا، حيث لا نجد ذكرا للعريف مارت بعد هذه الوقائع التي جرت قبل سنة 1892.