(إعادة نشر بمناسبة الذكرى الخامسة لرحيل العلامة محمد سالم ولد عدود)
ليس بدعا أن تنجب الصحراء عظيما، فكثبانها التي ارتوت بماء المكرمات كثيرا ما اهتزت و ربت و أنبتت من العلماء و الشعراء، من البناة و المفكرين، حدائق غناء يحور فيها البصر و تحار منها البصيرة. في أرجائها تلفي الورود و قد اختلفت ألوانها و أشكالها و الزهور و قد تباين أريجها فزادها الإختلاف و التباين رونقا و بهاء و طيب شذى.
غير أنه من شبه المستحيل أن يستأثر المرء من كل وردة بلونها و من كل زهرة برياها، فيصبح دون سواه روضة تفيض جمالا و عطرا. لعل تلك كانت من السمات المميزة للقطب الراحل محمد سالم ولد محمد عالي ولد عبد الودود الشهير بالشيخ عدود.
******
العلامة القاضي و الأديب الأريب الشيخ عدود ولد سنة 1929 بشهلات في منطقة اترارزة، و قد نشأ في محيط علمي بامتياز، فوالده الشيخ محمد عالي ولد عدود كان عالما معروفا و شيخ محظرة، أما والدته فهي النجاح منت محمذن فال و هي سليلة بيت علم أيضا. و نهل الشيخ عدود من علم هذه الأسرة التي حبته إياها الأقدار بادئا بحفظ كتاب الله تعالى و إتقان علومه، لتشرع أمامه أبواب المعرفة على مصاريعها، فيرخي العنان لنفسه المولعة بالعلم متنقلا بين واحات الكتب و مستغلا ذاكرته الفذة في تخزين كم قياسي من متون الحديث و الفقه و اللغة و دواوين الشعر.
******
تعطش الشيخ عدود إلى استيعاب كل ما يدخل في دائرة الإنتاج العلمي، دفعه إلى أن يلج مجال الدراسة بأسلوبها العصري، و هكذا اتجه سنة 1961 إلى تونس لدراسة القانون المعاصر ليعود بشهادة ليصانص، و لتشكل عودته بداية مساره الوظيفي و يتقلد مناصب سامية كان من أهمها توليه نيابة رئيس المحكمة الابتدائية فرئاسة المحكمة العليا ثم عين وزيرا للثقافة و التوجيه الإسلامي ثم رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى، و قد مارس التدريس سنوات بكلية القانون في جامعة انواكشوط.
******
إنتشر صيت العلامة ليتجاوز المحلية إلى العالمية فتلقى الكثير من الدعوات لحضور ندوات و مؤتمرات في مختلف أنحاء العالم، فكان ممن ساهموا في كتابة إسم بلاد شنقيط في سجلات التاريخ كما كانت تآليفه و أنظامه و محاضراته نبراسا أضاء سبيل العديد من طلبة العلم في موريتانيا و في شتى اصقاع الأرض.
******
اجتمع للعلامة عدود من الميزات ما نجعله شخصا استثنائيا بكل المقاييس، فقد أوتي ملكة الخطابة التي يفتقدها الكثير من العلماء، هذا مع بساطة الأسلوب و سلاسته و روح الدعابة التي كثيراما كانت تلمس في محاضراته، و هو ما يؤهله لجذب انتباه السامع و الأخذ بمجامع قلبه، ليس هذا فقط، بل إن المسار الذي ارتآه لنفسه حيث جنبها تجاذبات السياسة و دهاليزها، جعله موضع إجماع كل أطياف بني وطنه بالإضافة إلى مدنيته التي خولته التنقل في أنحاء العالم شرقا و غربا دونما صعوبات، مما منحه احترام جميع من تعاملوا معه.
******
أما الشيخ عدود الشاعر، فعنه حدث ولا حرجا، إذ كانت قريحته المتوهجة و سرعة بديهته سجايا ملازمة له أينما حل و ارتحل، فاشتهر بمساجلاته الشعرية مع أقرانه من أكابر العلماء، و كان لتلك التي جمعته بالعلامة و الأديب حمدا ولد التاه –و كان من أعز أصدقائه- النصيب الأوفر من الشهرة ك (الزنكلونيات و الجراديات...).
******
و لعله من نافلة القول ذكر ما صبغ حياة الشيخ عدود الدراسية و المهنية من ورع لم يستثن نقطة حبر و لا قطعة طبشور، كما أنه من الاستحالة بمكان الوقوف على جميع المحطات التي تبرز مظاهر العظمة في حياة هذا العالم الجليل الزاهد.
و لقد عكس تفرغه الكامل للتدريس بمحظرة "أم القرى" بعد تقاعده سنة 1997 و الذي استمر حتى وفاته بتاريخ 29/04/2009 أنصع صورة لحياته التي سخرها لأداء أمانة بث العلم في صدور الرجال، و خير ختام لمسيرة لا يكاد القلب يخفق إعجابا و زهوا بإحدى محطاتها حتى تليها أخرى لتختطف بريقها و تشد عنها الإنتباه.
******
و ذات مساء حجب الأفق شمس العلامة محمد سالم ولد عدود، دون أن يحجب النور و الدفء الذي ملأت به القلوب طوال ما يناهز الثمانين عاما لتنطلق الحناجر برثائه شعرا و نثرا، و لكن هيهات أن يوفيه حقه كلام..أي كلام، و هيهات أن يلفى له في تاريخ العلم و الشعر و التواضع و الخطابة أي مثيل.
الكاتبة الصحفية : بلقيس منت اسماعيل