محمدن ولد سيدي الملقّب (بدنّ)
في مثل هذا اليوم من سنة 1981 أي قبل اثنتين وثلاثين سنة من الآن كنا في جريدة الشعب الواقعة آنذاك في مباني المطبعة الوطنية وكنا نرتب لاجتماع التحرير لدراسة جدول الأعمال الروتيني المشتمل على نقطتين هما.
تقييم الطبعة السابقة من الجريدة اليومية والتحضير لإصدار النسخة اللاحقة.
فجأة سمعنا في حدود الساعة العاشرة صباحا طلقات نارية في اتجاه رئاسة الجمهورية. هرعنا إلى خارج البناية وانصبت الأنظار إلى مبنى الرئاسة حيث كان هنالك جندي واحد خارج المحيط يطلق طلقات متقطعة من وراء السور من جهة الشرق. لم تكن تفصلنا آنذاك عن الرئاسة أي مباني.. لذلك كانت الرؤية واضحة.
تزاحمت الاحتمالات وتلاحقت الآراء، وفي خضم ذلك ركن الجميع للاستنتاج الذي انتهى إليه رأى زميلنا الشيخ بن أوداعه بأن الأمر يتعلق بمجرد مناورات عسكرية تستهدف تجريب خبرة العناصر المختصة في الجيش على تقنيات الدفاع في حالة وقوع هجوم مفاجئ واختير لها الوقت المناسب.. ساعة غياب الرئيس في جولة داخل البلاد!
لم يحتج زميلنا لعناء كبير من أجل إقناعنا خاصة أننا كنا على علم مسبق أن السيد الرئيس محمد خونه بن هيداله قد سافر فجر ذلك اليوم إلى شمال البلاد صحبة بعض الدبلوماسيين الغربيين في زيارة طارئة اصطحب معه فيها لتغطية النبأ، بعض الصحفيين من الجريدة أذكر منهم العالم بن أحمد خليفة والمصور جيبي جالو..
ففي عشية اليوم السابق (الأحد 15 مارس وهو عطلة نهاية الأسبوع) التقيت في مقر الجريدة بالسيدين محمد الأمين بن يحي ويسلم بن أبن عبدم وهما على التوالي الأمين العام للأمانة الدائمة للجنة العسكرية والأمين العام للوزارة المكلفة بالإعلام، وقد جاءا لترتيب سفر البعثة الصحفية المنتدبة لمرافقة رئيس الجمهورية.
رجعنا إذا بقسط من الاطمئنان وما إن استأنفنا العمل حتى عاد الطلق من جديد وتسارعت وتيرته واختفى الجندي من خلف سور الرئاسة بطلقاته المنفردة المتقطعة وبدأت الأنباء والشائعات المتعارضة تصل إلينا من كل حدب وصوب بل كان الناس يفدون إلينا من القطاعات الوزارية المجاورة.. إذ أننا كنا المصدر الوحيد للأنباء ولكن كنا أيضا نتبوأ مكانة تخولنا صفة شهود العيان لقربنا من الرئاسة .مسافة أقل من مائة متر!
كثافة الطلق الناري على مبنى الرئاسة القريب من المطبعة أرغمتنا على إخلاء المكان فرادى وجماعات وكنت ممن اختزل الطريق في اتجاه حي ابلوكات فتسورت حائط المطبعة من جهة الشمال وعبرت المنطقة الخالية آنذاك الممتدة من شمال المدرسة الوطنية للإدارة إلى مبنى الإذاعة الوطنية. وعلى شارع جمال عبد الناصر شمال شرقي الإذاعة اضطررت للتراجع لأفسح الطريق أمام تلك السيارة العسكرية المكشوفة التي يقودها عسكري ملثم يجلس إلى يمينه ضابط قد اشتعل رأسه شيبا وهو ذو سكينة ووقار حاضرة صورته في مخيلتي كأحد القادة السامين في الجيش ولكنني لم أكن أعرف اسمه.. وكانت السيارة تنطلق بسرعة فائقة مشرِّقة في اتجاه قيادة الجيش ..
علمت فيما بعد أن تلك السيارة هي إحدى سيارات الكومندوس وأن السائق هو الكولونيل كادير وقد انطلق من الرئاسة في اتجاه القيادة مصطحبا معه قسرا الرائد سيدي ولد محمد الأمين ليستعين به على الدخول، وكان معه من أعضاء الكومندوس إبراهيم فال بن عيدله. وكان ما كان من أحداث متلاحقة انتهت باستعادة سيطرة الجيش على الأوضاع وتلاوة البيان الحكومي التوضيحي على لسان معالي وزير الإعلام آنذاك أحمدو بن سيدي ولد حنن.
اكتملت كل تلك الأمور عشية ذلك اليوم المشهود إلا أن بعض الجزئيات الصغيرة بدأت تتزاحم في مخيلتي فأهم بربطها بالأحداث فلا أجد إلى ذلك سبيلا. منها أنني كنت في القصر الرئاسي صباح يوم السبت 14 مارس 1981 صحبة أحد الصحفيين كان يود لقاء الأمين العام للحكومة السيد محمد يحظيه بن ابريد الليل في موضوع خاص. وصادف أن أبصرنا محمد يحظيه عند مدخل المكاتب فعرج علينا، وبعد الاستماع إلى رفيقي مليا كعادته مع الجميع، أشار إلى سيارة رسمية كان في توديع أصحابها ولم أعرف منهم سوى مدير الأمن آنذاك محمدو بن اميشين وقال: هؤلاء ضيوف من الداخلية الجزائرية سأرافقهم إلى أطار خلال عطلة نهاية الأسبوع، ولكن أضرب لك موعدا بعد عودتي في الساعة العاشرة من يوم الاثنين المقبل إن شاء الله (16 مارس 1981). انطلقنا من الرئاسة على أمل العودة إن شاء الله وما انفك رفيقي يستغرب بحسه الصحفي المرهف تلك الوجهة الشمالية لذلك الوفد في تلك الفترة الزمانية بالذات وهو يردد: وهل حجم العلاقات الأمنية بين الدولتين يسوغ مثل هذه المهمة؟ ولماذا الاتجاه إلى مدينة أطار بالذات؟
المسألة الثانية أنني في صباح ذات اليوم (الاثنين 16 مارس 1981) حضرت مبكرا إلى مبنى الإذاعة الوطنية حيث كنت على موعد مع الأستاذ كابر هاشم لتسجيل حلقة عن شعر امحمد بن أحمد يوره ضمن برنامجه المشهور "شاعر وقصيد"، واعتذر الأستاذ بحجة أنه اضطر في آخر لحظة لحجز الإستديو لشاعر سعودي يتأهب للعودة إلى بلاده هذا المساء عن طريق الدار البيضاء على الخطوط الجوية المغربية.
ما أثار انتباهي صباح ذلك اليوم هو كثافة عدد أفراد الحرس الوطني المتواجدين عند الباب الغربي لمبنى الإذاعة فوجود الحراسة بذلك الحجم المرتفع نسبيا (حدود الخمسة) لم يكن مألوفا لدينا آنذاك فما هو السبب يا ترى؟!
قرأت مذكرات الرئيس هيدالة "من القصر إلى الأسر" فاستوقفني منها ذلك المقطع الذي قال فيه إنه طلب لقاء الرئيس معاوية بعيد المحاولة الإنقلابية التي نظمها فرسان التغيير 2003 لينصحه بعدم إضفاء الصبغة الجهوية على هذا الحدث العارض.
قلت في نفسي سبحان الله!لو كان اللقاء قد حصل بالفعل هل كان السيد الرئيس سينجح في إقناع رفيقه في الدرب بتجنيب بعض العباد وبعض البلاد ما لم يجنبها هو نفسه إياه في تعامله مع رفاقه المتورطين فيما أصبح يعرف فيما بعد بالكوماندوس؟
مهما يكن من أمر فقد دخلت البلاد دوامة من الاعتقالات والاتهامات والمضايقات والمحاكمات الموجهة هي أسوأ بكثير مما شهدته البلاد سنة 2003 وعابه الرئيس هيداله على الرئيس معاويه بل كان يود أن ينصحه بالابتعاد عنه، كما صرح بذلك هو نفسه في مذكراته.
المهم أننا كنا من خلال موقعنا في جريدة الشعب نواكب الأحداث عن كثب بدءا بالاعتقالات وانتهاء بالحكم ومتعلقاته مرورا بمختلف مراحل المحاكمة .
وخلال تلك المرحلة العسيرة من تاريخنا، كنت أسترجع من شريط الذاكرة ذلك اليوم من أيام يونيو 1980 الذي استجبت فيه لإلحاح الصديق المرحوم ابهاه بن اسويدات المعارض القاطن آنذاك في فندق حسان بالرباط فقبلت من خلاله دعوة من الكولونيل المرحوم محمد بن ابَّ بن عبد القادر الملقب كادير لتناول وجبة الغداء في منزله بحي تاهميره بالرباط..
كنت قد انتهيت للتو من مناقشة رسالة التخرج واستلمت إفادة النجاح في الترتيب الأول من طلاب السنة الرابعة من المعهد العالي للصحافة، وأنتظر بفارغ الصبر الموعد المحدد للطائرة الخاصة "شارتير" المنتظر أن تقل الطلاب الموريتانيين العائدين إلى أرض الوطن.
وصلت ورفيقي إلى نقطة معينة من حي يعقوب المنصور على الشارع الرسمي المؤدي إلى الدار البيضاء حيث كنا على موعد مع مضيفنا. ما إن نزلنا من سيارة الأجرة حتى توقفت بإزائنا سيارة حمراء من نوع هوندا مظللة فإذا بها يقودها الكولونيل كادير نفسه. ركبنا معه وانطلق بنا إلى فندق هلتون حيث التحق بنا نزيل الغرفة 115 الكولونيل المرحوم أحمد سالم بن سيدي.
وصلنا إلى منزل المرحوم كادير فأكرمتنا زوجته راضية التي كانت صائمة ذلك اليوم ولكن ذلك لم يمنعها من أن تهيئ لنا بنفسها كل ما لذ وطاب من الأطعمة المغربية والموريتانية المعهودة.
كان الحديث شيقا تناول الحاضرون خلاله مواضيع شتى يقطعها من حين لآخر رنين الهاتف وفي كل مرة يرفعه كادير ويقول في ابتسامته المعهودة وهدوئه المعروف: إنه الفنان ابيب ولد النانه لا زال يبحث عن جواز سفره المفقود!
وأثناء ذلك اللقاء سمعته يقول: قال لي الرئيس الفرنسي جيسكار ديستين: علينا أن لا نرضخ أبدا تحت ضغط القوة، وسمعته يشيد بشجاعة د. محمد محمود بن اماه الذي قال إنه خاطر بوظيفته (لم أعد أتذكرها) فحضر في باريس حفل إعلان ميلاد "التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية" ..
وفي معرض حديثه عن الأوضاع السياسية في الوطن، أثار ضحكته شائعة راجت في نواكشوط مفادها أن النظام هنالك يستعد لتعيين النقيب مميْ جارا محافظا للبنك المركزي الموريتاني!
أما حديث المرحوم الكولونيل أحمد سالم بن سيدي فكان ينصب على مواضيع محلية يستدل بها في كل مرة على عمق العلاقات التاريخية التي تربطني وإياه. وفي نهاية اللقاء حمَّلني رسالة شفهية إلى زوجته مانه بنت الأمير احبيب بن أحمد سالم، وأذكر أن دهشتها كانت كبيرة عندما أوصلتها الرسالة في جنح الظلام بمساعدة طيبة من أحد السياسيين البارزين، إذ يبدو أنها أول رسالة تتوصل بها من عنده منذ مغادرته المفاجئة إلى المغرب عبر الحدود السنغالية.
وفي المساء ودَّعت الرجلين إلا أنهما ظلا دائما حاضرين في شعوري وهو حضور تعزز كثيرا بفعل تأثير الفصول المتلاحقة لنهايتهما المؤلمة.
وأعود فأقول إننا تابعنا باهتمام كبير آنذاك مختلف فصول التحقيق و المحاكمة وما تبعها من خلال المراسلين وخاصة منهم السيد محمد (اباه) بن جلدي والب ولد الطلبه والشيخ ولد لوداعه والمصور جيبي جالو. بل لا أزال أحفظ مقاطع مؤثرة من مذكرات الدفاع لمحامين تألقوا في تلك المناسبة من أمثال يعقوب جالو والأستاذ يربه وغريهما كثير.
وفي نهاية المطاف كان ما كان مما أقتصر منه على جزئية واحدة أرويها لغرابتها فقط.
كنت رئيس سكرتارية التحرير في الطبعة العربية من الجريدة ، وذات يوم بينما كنت أستعد لإغلاق الصفحات قبل التوضيب، إذ تسلمت من السيد رئيس قسم الأخبار الوطنية خبرا مشفوعا بأمر رسمي سام صريح بضرورة نشره محاطا بما هو أهل له من العناية والإبراز. ورد الخبر للتو في الشريط الخاص بالوكالة الموريتانية للأنباء.. تصفحت النبأ فإذا هو يتعلق بتنفيذ حكم الإعدام في الأشخاص الأربعة المحكوم عليهم وهم: كادير وأحمد سالم، والنقيب انيانك ومحمد ولد عالي انجاي.
وجاء في نهاية هذا النبأ تذييل غريب مضمونه أن المعنيين اعترفوا قبل التنفيذ بعدالة الحكم الصادر بحقهم!!
ولعلمي علم اليقين بغياب ممثل الوكالة أصلا، ولقناعتي باستحالة وقوع التصريح المنسوب للضحايا، ولإحاطتي نسبيا بما تسرب من أنباء عن المحيط المتضمن للمراسيم بفعل التغطية الشاملة والدقيقة لمناديبنا الحاضرين، وبفعل تأثير الحدث في ذلك الوقت المتأخر من الليل، ألقيت النبأ بدون أي عنوان في أحد الأعمدة الداخلية من الصفحة السابعة إلى جانب البقايا المحالة من الصفحة الأولى من الجريدة.
وللأسف الشديد لم تكتمل معاناة الأهل والأصدقاء عند هذا الحد وإنما بدأ فصل جديد من هذه المعاناة بسبب التعتيم الغريب على موقع الدفن وهو ذات التعتيم الذي لا يزال يكتنف مصير الوالي سيدي محمد بن محمد الأمين وليس له أي مسوغ أمني أو سياسي أو شرعي، فعسى الأيام تزيل الغموض وتكشف المزيد من الحقائق.