من يعبث بوكر الأفاعي تلدغه لا محالة .. ومن أنبأ الحوتيين أن أباهم ذئبا كان عليه أن يكون أكثر حيطة ودهاء ومكرا .. وكلها صفات اتسم بها المرحوم علي عبد الله صالح خلال عمره الزمني الممتد من 1942 إلى نوفمبر 2017 .. لكنها خذلته أو خذلها فى لحظة غادرة أخرجته من مسرح أحدث اليمن لكنها لم ولن تخرجه من تاريخ اليمن كأحد أبرز قادته المعاصرين.
***
علي عبد الله صالح يمني بدوي عصامي مغامر انطلق من لا شيء نحو كل شيء .. انطلق من رعاء الشاء إلى سدة الحكم .. وحالفه الحظ فى صنع معجزات بالقياس اليمني فهو أول من تمكن من إزاحة حكامة الإمامة إلى غير رجعة .. وهو أول من وحد شمال اليمن وجنوبه .. وهو أول من انتزع من السعودية اتفاق ترسيم معالم الحدود الغائرة بين البلدين .. وهو أو من هزم الحوثيين وقتل زعيمهم الأكبر .. وهو أول من أنزل التنوع القبلي فى إطار تعددي .. وهو أول من أعاد بناء سد مأرب .. وأول من وفق فى تحويل الجمود اليمني إلى حراك وتطلع دائم نحو أفق جديد.
***
هذا الرجل غريب الأطوار .. فيه شيء من كبرياء تبع .. وبلاهة بلقيس .. وفيه شيء من آخرين تعاقبوا على حكم اليمن السعيد خلال حقب ضاربة فى القدم.
علي عبد الله صالح من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فقد استمات فى قمع شعبه المطالب برحيله أيام الربيع العربي وكاد يدفع حياته ثمنا لتعنته وإصراره على البقاء .. وأخفق فى حوكمة الوحدة اليمنية فتحول فى أذهان الجنوبيين إلى أداة لتمكين قبائل الشمال من إذلالهم فى عقر دارهم .. وأخفق فى عدم ترك السلطة حين تركته .. وأخفق فى إدارة محالفاته المتغيرة تغير مزاجه الانتهازي .. وأقنع الجميع بأنه عدو لا تؤمن بوائقه وحليف لا يعتمد عليه.
علي عبد الله صالح مات قبل موتته النهائية عدة مرات .. وكان ينهض باستمرار لكنه هذه المرة قدم إلى ما قدم.
***
رغم كل ما قيل ويمكن أن يقال عن الرجل .. فقد كان قوميا .. رومنسيا نرجسيا .. كان نبتة يمنية ومنتجا محليا أصيلا .. وصف أعداءه الحوثيين يوما بأنهم كنبتة "القات" قليلها منعش وكثيرها مهلك .. ويبدو أن الرجل انتبه بعد فوات الأوان إلى أن "قات" التحالف مع الحوثيين زاد عن حد الانعاش فانبرى بعد فوات الأوان محاولا تقليص الجرعة لكن مفعول الحوثيين كان أسرع فأردوه مضمخا بدمائه عند مخرج صنعاء الجنوبي الذي دخل منه ضحوة الوصول للسلطة وخرج منه جثة هامدة.
***
رحم الله علي عبد الله صالح فقد عاد إلى معمعان الأحداث حين كانت عودته كارثية متحالفا مع الحوثيين .. وخرج حين كان وجوده ضروريا لفتح مسارات أخرى لإنهاء معاناة اليمنيين الذين دفعوا ثمنا باهظا لإكراهات التاريخ والجغرافيا السياسية ودفعوا ثمنا أبهظ لسقطات نخبهم السياسية والطائفية والقبلية .. وسيدرك من يتحدثون عن خلافة الراحل أن زعامة أحزاب السلطة لا تورث فهي هلامية تتبخر بمجرد اختفاء مؤسسها الماسيترو السلطوي .. ومثلهم من يراهنون على تفجير اللحمة اليمنية الداخلية المنفجرة أصلا .. فقوة اليمن كانت وما تزال كامنة فى ديناميكية فسيفسائه القبلية العصية على التطويع التي هزمت كل الغزاة منذ انهيار سد مأرب إلى اليوم .. قد يكون موت صالح نهاية لرجل ولكنه إحدى البدايات ليمن جديد قدره أن يكون رقما صعبا فى محيطه الإقليمي والدولي ومن ينتظر غير ذلك واهم.