من جديد احمد ولد داداه يحاول بعث حزبه و بالتالي بعث معارضة لم تمت من تلقاء نفسها و انما قتلت مع سبق اصرار وترصد من قبل جنود دخلوا عنوة فسيطروا وانتفخت بطونهم حتى لم يعد بامكان اي منهم الخروج من الباب، و حينها لم يجدوا من حل غير البقاء في البيت وترتيبه تبعا لأهوائهم. محاولة البعث هذه قد تكون مفيدة وقد لاتكون كذلك، لكن من حسناتها علي شخصيا ان جعلتني ابحث في تلافيف ذاكرتي عن الرجل ومواقفه من القضايا التي تهمني وموقفي الشخصي من “يوسف” المعارضة الموريتانية.
وعادت بي الذاكرة لسنين خلت من تاريخ هذا البلد. حين كبرت نسبيا وصرت مراهقا رأيت امامي فسطاطين لاثالث لهما كان احمد ولد داداه يمثل محور الخير والأمل، ومعاوية يقود المحور المقابل، و كان السياسي عندي احد اثنين،اما مع المعارضة فهو انسان شريف واما مع السلطة فهو مصفق مطبل يريد فضلات العسكر، و هكذا كانت فعلا السنوات الأولى للممارسة السياسية التي عرفتها،كانت المعلومة منت الميداح تمثل الخير في الفن وغيرها من الفنانين يمثلون الشر والسلطة، و كان الغلام يوسف ولد حنيني يمثل حالة وفاء لأحمد غدت حالة وجودية رائعة في دائرة ولد داداه، تماما كما كان مقر “بالاس” محجة للشرفاء.
في كل شارع وفي كل زقاق كنت تسمع اغاني المعلومة “نحتاج عبقري كيفك يا احمد”، و في كل حدث كان الصوت النشاز في الجوق السياسي هو صوت احمد ولد داده وهو يردد بصوت متهدج كمرابط خاشع: “إن اريد الا الاصلاح ما استطعت وماتوفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب”، و خلال سنوات تحول الخبير الدولي الاشتراكي المتدين الى الرمز الذي يجب ان يكون محور كل محاولة لانقاذ هذا البلد،وصارت رمزيته حقيقة لايشكك فيها مشكك لا في الداخل ولا في الخارج.
احمد كان الرجل الذي لجأ الى بيته كل الباحثين عن التغيير من شرق البلاد الى غربها وظل طيلة عقود من المضايقات والسجون، كما هو لم يتغير، يخطئ، يصيب، يغضب، يسر، لكنه في كل حالاته الشخص المثالي المتعفف النزيه الذي لايريد لنفسه و لا لأهله المال الحرام.
غير ان تلامذته في السياسة و الحزب والنضال فقسوا و كبروا ماديا، و صار لزاما على كل واحد منهم ان يفتح دكانه الخاص، فولدت احزاب من جسم الرجل،و ولد سياسيون من شاكلته، و بدأ هو يفقد جسمه السياسي لا لذنب اقترفه ولا لضعف او وهن اصابه وانما لأن الآخرين قرروا ان يكونوا.
في المقابل ظهرت من جلباب الرجل احزاب بتوجهات مختلفة و رؤى تنطلق من فهم و تحليل و عقيدة حقة لكنها كلها كانت اقل من شأن صاحب الجلباب، فأحمد مازال رغم هذه الانشطارات وتلك الانشقاقات والخيانات والضربات الموجعة، مازال يراوح مكانه، يقف على ذات المسافة التي كان يقف عندها من حملة السلاح الغاصبين.
تغيرت امور كثيرة وفي تغيرها كنا نعتقد ان يوسف المعارضة تغير او انه هزل حتى صار مظنة للعرض في سوق النخاسة السياسي، لكن شيئا من ذلك و ان حصل فعلا مع جل رفاقه الا انه لم يحصل معه،فبقي هو في مكتبه يكرر “حتى أنال به كريم المأكل”، الى ان هم يوسف فجأة بامرأة العزيز بعد الشوشرة التي انتهت بسجن الرئيس ولد الشيخ عبد الله، اعتبرنا الأمر تغيرا في مسار المناضل الشريف، فوصفه لتحرك العسكر بأنه تصحيح كان كارثة و وبالا على شرفه النضالي، ليس لأن السياسيين عندنا لايصدرون تصريحات تتنافى وقيمهم الديمقراطية التي يفترض انهم جبلوا عليها ولكن لأن الرجل مختلف عنهم منذ النشأة في سلوكه السياسي..
هنا توقفت الأشياء عندي شخصيا و معي في ذلك اقوام آخرون، وتوقف التاريخ وتقسيم المشهد الى فسطاطين ونسيت المعلومة ونظرية المطبلين والأفاضل، فكلهم سياسيون بالنسبة لي، لايختلفون عن بعضهم، مادام احمد يقول بمثل هذا ويقر هذا ثم في الأخير مادام يقرب المفسدين بسبب انهم يحملون اصواتا سيتضح لاحقا انها انكر من صوت الحمير.
يومها اظلمت الدنيا في وجهي، فقد خدعوا الرجل الأمل، خدعوا الرجل الطيب ولولا ان رأى برهان ربه في اللحظات او الأشهر اللاحقة لتمكنوا من سحل كرامته في الشارع، و الحمد لله انه لم يمكنهم من نفسه وان الحالة لم تدم وانه اعترف بسوء تقديره، فقد الهمه الله ان العزيز لن يستعين به ولن يطلبه تأويل اي من احلامه و لن يسأله تسيير الخزائن لأنها يجب ان تظل بلارقيب..
عزيز موريتانيا يختلف عن عزيز مصر.
هكذا ببساطة عرف حامل كتاب الله ان سورة يوسف تحكي قصة زمان ومكان و شخوص يختلفون عن شخوصنا و عن زماننا ومكاننا.
خرج احمد من تلك اللحظات العصيبة في تاريخه مهيض الجناح منكسر الخاطر حزينا محفوفا ببقية مفسدين “وبقايا” تنتظر الخلاص والاشارة وظلت طيلة السنوات الماضية تكدر صفوه وتضع العقبات في سبيل محاولاته استعادة جماهيره الغاضبة من ضيوفه العابرين، الى ان بدأت تلك الجماعة تنسلخ منه انسلاخا سيتطلب حتى ينتهي نهائياسنوات اخرى..
و بهذا بدأ في اعادة ترتيب مجمل اوراقه التي بعثرها ضيوف الترانزيت، و بدأ الحزب يتنفس الصعداء وخرج الرجل للصحافة وللجان حزبه الشبابية و كأنه يقول: لقد كنت مختطفا فاعذروني اذ كنت اصرح تحت تهديد سلاح فتاك.
مهما قلت، ومهما اتهمت الرجل فما كتبت عنه هذه الأسطر الا لأنه الرمز الذي لا اريده ان يموت في نظري او ينتفي، ببساطة لأنه في ذاكرتي جزء ثابت غير قابل للتحول مثل الأطلسي و”افلة”، انه من كان، ومازال كما كان رغم الاكراهات والاغراءات والتقدم في العمر وضعف الوسائل.
و بما ان التغيير لايجوز في عرف العسكر ولن يكون ابدا الا بثورة ،فعلى الأقل نحتفظ بذلك الألق وذلك الأمل الذي يشرق مع كل اطلالة لأحمد ولد داداه.
مشهد سياسي ليس فيه الرجل لعب اطفال، و معارضة لا تجعله مركزها ستظل تشريعا متعمدا لنظام العسكر.
ان من غير الأخلاقي بعد هذه السنوات والعقود ان يتنكر اي منا لجهود من ضحى بماله وعمره من اجل قضية لم يتحمل فيها الا القليلون الأذى والجوع والعطش والهوان.. و في حين كان غيره يبيعون انفسهم ليحصلوا على اموال البلد كان هو يبيع ماله ونفسه لينقذ الأموال و الأنفس التي في البلد. لولاه لما كان ذهاب ولد الطايع مبررا و لولا وجوده في المشهد صابرا صامدا لما تشكلت احزاب جادة ولدت وتربت في حضنه، و لولاه لما كان الأمل بغد افضل، صحيح انه لم تلح أفق التغيير بعد، لكنها محتملة به وبغيره من الشرفاء في الأحزاب القليلة الأخرى، اقول الأخرى لأن احمد حزب في حد ذاته، و لولا وجود الرجل الحزب لماكان هذا الاحتمال قائما اليوم، و لكنا انتظمنا مرغمين في حزب سياسي هو الحزب الجمهوري و لبقينا الى الأبد نبحث عن تغيير في ظل استقرار يعني بالدرجة الاولى استقرار الحزب الواحد والرجل الواحد والأمل الواحد. سنظل “نحتاج عبقري كيفك يا احمد، خبير وحاذك ومجرب”…
من الوضاعة حقا ان لا اعترف لك بالقليل من صنيعك بعد مايزيد على عقدين من التضحية.