«جهز نفسك لتذهب إلى طرابلس قريبا»… هكذا قيل لي في جريدة «الرأي» الأسبوعية المستقلة، القريبة من أوساط المعارضة المختلفة، التي كنت أعمل فيها منذ كنت طالبا في معهد الصحافة بالجامعة التونسية.
طرت فرحا، هذه أول مهمة صحافية خارجية تسند لي بعد أشهر قليلة من تخرجي عام 1981 وقد رأيت فيها دليل ثقة كبيرة من كل من مديرها المرحوم حسيب بن عمار، وزير الدفاع السابق الذي استقال من حكومة بورقيبة في وقت ما كان أحد يتجرأ على فعلها، وعضو هيئة التحرير حمادي بن سعيد المقيم حاليا في فرنسا منذ سنوات طويلة ورئيس التحرير أحمد الرفاعي الذي أتمنى أنه ما زال بصحة وعافية.
زرت طرابلس لإعداد سلسلة تقارير عن التجربة الليبية التي أرادها العقيد الراحل معمر القذافي للمجتمع والدولة سواء فيما يتعلق بالتعاونيات الزراعية أو التجارية أو المؤتمرات الشعبية وغير ذلك مما طبقه من «نظريته العالمية الثالثة» كما وردت في «الكتاب الأخضر».
علي الآن أن أثبت أني جدير بهذه الثقة وأن أعود بأشمل تحقيق ممكن عن هذه التجربة بعيدا عن إعجاب كثير من التونسيين بها وقتها أو استهتار آخرين بها. كانت الزيارة بدعوة من السفارة الليبية في تونس واستمرت لعشرة أيام ببرنامج مكثف غطى أغلب ملامح تلك التجربة في بعديها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
خصصت لي السلطات الليبية سيارة ومرافقا هو سائقها أيضا يلازمني كظلي في كل مكان. طلب مني ذات مرة أن أنتظره قليلا في السيارة فلما تأخر التقطت مجلة «الوطن العربي» من الكرسي الخلفي وشرعت في تصفحها، وجدت في ثناياها ورقتان وفيهما هذان السطران اللذان ما زلت أذكرهما تماما: فلان الفلاني صحافي من جريدة الرأي التونسية، لا يملك لا آلة تصوير ولا آلة تسجيل وهي أشياء ضرورية لأي صحافي، كثير الأسئلة في زياراتنا إلى كل من….
إذن صاحبنا شرع في كتابة تقريره عني. ارتبكت وأعدت المجلة إلى مكانها بسرعة قبل قدومه وصرت من ساعتها شديد الحذر منه فلم أكن أعرف، لانعدام التجربة، أن الرجل لم يكن سوى عين على كل تحركاتي سواء لأنه رجل أمن أو لأن ذلك هو المطلوب منه من مرؤوسيه في قطاع الإعلام. على كل، الرجل لم يكذب، فلم يكن أملك وقتها فعلا لا كاميرا ولا مسجلا، ليس فقط لأني حديث التخرج ولا أستطيع اقتناءهما وإنما أيضا لأن صحيفتي لا تقل «بؤسا» عني فهي تعيش فقط على المبيعات، وسط مقاطعة كاملة من المعلنين وقرارات مصادرة وتعطيل متلاحقة، إلى أن اختفت تماما من الوجود مطلع 1988 بعد أشهر قليلة من وصول بن علي إلى السلطة في أول اعتداء من نظامه الجديد على حرية الصحافة، لكن زهو الجميع وقتها بالتخلص من حكم بورقيبة وشيخوخته لم يسمح بتقدير الأمر حق قدره.
لم أزر ليبيا مرة أخرى أبدا وكأن عقدة ما كبلتني منها. تلقيت أكثر من مرة دعوات من العقيد القذافي لزيارته لكني كنت في كل مرة أختلق الأعذار.
هاتفني ذات مرة مراسل «الجزيرة» في طرابلس خالد الديب ليقول لي إن «الأخ القائد» مهتم بما أكتبه من مقالات في صحيفة «القدس العربي» ويود لو يناقشني في بعضها. حدث ذلك بعد مقال كتبته عن غضب القذافي من شبكة «سي أن أن» الأمريكية التي قامت باختصار مقابلتها الطويلة معه. وفي مرة أخرى، اتصل خالد ليقول لي إن القذافي يدعوني لزيارة خاصة، ولما تحججت بأني في مدينة صفاقس في عطلة مع أسرتي عاد واقترح بأن أصحبها معي قائلا إنه سيبعث سيارة مرسيدس تقلنا جميعا فصفاقس لا تبعد عن طرابلس سوى 500 كيلومتر، اعتذرت مرة أخرى متحججا بالتزامات عائلية لا فكاك منها.
ما كنت أسمعه عن رحلات زملاء آخرين إلى هناك، وخاصة زميلات، ما كان يشجع الحقيقة على هذا النوع من الزيارات، وحتى عندما اتصل بي ذات مرة الدكتور محمود جبريل لترتيب لقاء تلفزيوني مع سيف الإسلام القذافي تحججت بأني في إجازة عائلية في إيطاليا واعتذرت، رغم إلحاحه الشديد واستعداده لأي ترتيب لضمان وصولي السريع إلى ليبيا.
«اكتشفوا ليبيا القذافي!» كان عنوان سلسلة المقالات الخمس التي عدت بها وكانت من بينها حلقة عن اللون الأخضر وقد طليت به أرضية ساحة كاملة تطل على كورنيش طرابلس الجميل، وكيف صبغت به كذلك أبواب كل المحلات التجارية حتى تلك التي أغلقت أبوابها في شوارع بأكملها، كان القذافي وقتها يغلق مثلا عشر محلات خاصة للإلكترونيات مثلا ليدمجها في مقر واحد يطلق عليه اسم «المنشأة العامة للإلكترونيات» وهكذا، حتى الحلاقين لم يسلموا من إجراء كهذا!!
اتصل بي وقتها جمعة الفزاني السفير الليبي في تونس وهو رجل مثقف أدار لسنوات مجلة «الثقافة العربية» الليبية الشهرية ليقول لي بأن مقالاتي لا بأس بها ولكن المشكل أن القارئ قد لا يدري ما إذا كنت فيها بصدد الوصف أم السخرية!!
على كل لا أنكر أن أول كاميرا اشتريتها كانت من ليبيا وكذلك المسجل حتى أنني هممت للحظة، ومرافقي يودعني في المطار، أن أقول له ها أنني اشتريتهما في النهاية… لكنني جبنت وآثرت السلامة.
محمد كريشان - كاتب وإعلامي تونسي