بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
طرَق سمعى بعد هَدْء من الليل وفاةُ علَم كبير من أعلام بلدنا، ورمزٍ شهير من رموز مدينتنا، ألا وهو السيد الفاضل الحكيم الشهم الأبىّ الكريم ابنُ السادة الأباة الكرام: الشيخُ بن سِيدِى اَحمد بنِ أحمد عَيْشه الذى وافاه الأجل المحتوم ليلةَ البارحة عن عمُر ناهز مائة عام عاشها كريما رفيعَ العماد، عزيزا طويل النجاد.
كان الشيخ - رحمه الله -أُنمُوذَجًا حيّا للعربىّ الأصيل، ذى المجد الأثيل، والنجدة والشجاعة والوفاء.
عرفتُه أيضا معلما مربيا، ووجيها مرموقا، و"زاويا" مشاركا فى الفقه والأدب والتاريخ، بل ذاكرةً جامعة لكثير من أخبار هذه البلاد وتاريخِها وأعلامها وأمجادها، غزيرَ الرواية والمحفوظ، مستكثرًا مما هنالك، فى أمانة وصدق وجاذبيّة وحسن أداء، جامعا بين محاسن بنى حسان وشيم الزوايا.
وكانت لى به صلةٌ خاصة، فضلا عن صلته العامّة الوثقى بأهل بيتى. وكان يقصُّ علىّ القَصص والأخبار، ويقول لى: "أيها المفتى زُرنى أُفِدْك". وكان يلاطفنى، ويقول لى كلما ناقشنا مسألة فقهية أو عقَدية: "أنت تضعٌِف جميع أحاديثنا، وتصحٌح أحاديثك"! ورآنى ذات يوم أقرأ مسائل فقهية من نسخة والدى رحمه الله - من كتاب المغنى لموفق الدين بن قدامة - وكانت أولَ نسخة دخَلت هذه البلادَ منه، على وجه الإطلاق، حسب علمى - فقال الشيخ لوالدى رحمهما الله: هبنى كتابا فقهيا متوسطا، ليس مثل كتابكم الكبير هذا، وليس من كتب المبتدئين، فلست مبتدئا، واشترط أن يكون من كتب المالكية. فأمرنى الوالد رحمه الله بإحضار المطلوب إذا سافرت إلى العاصمة وعدت، وكنا يومئذ فى عزاء جامع، أيام وفاة عمى الشيخ إبراهيم ابن الشيخ سيدى بابه رحمهما الله تعلى، فأحضرت للفقيد شرحَىِ الرسالة لزرٌوق وابنِ ناجى، فى مجلد واحد، ففرح به، واغتبط له، وذكر لى بعدُ مِرارًا عديدةً كثرةَ ما استفاد منه من الأحكام والمسائل العلمية.
وكان الشيخ قد جالس العلماء والأكابر والفضلاء، وأخذ - على وجه الخصوص - عن فريد عصره شيخِنا، وشيخ مشايخنا العلامةِ محمد عال ابنِ عبد الودود، وحضَر دروسَه، وطال بأبى تلميت تجاوُرُهما، وفى كل الشؤون تحاوُرُهما، وتأكدت الصلة والمحبة بين بيتيهما، فكثرت فوائدُه لديه، ووعَى من دُرَرِه ما انتهى إليه.
***
نال الشيخ ولد أحمد عيشه حظا من الدنيا، ونرجو له من الله عز وجل الحظَّ الأوفى والأوفرَ فى الدار الأخرى، تكرمةً ورضوانا ورحمةً وزُلفى؛
ومن حسن الختام انتقالُه عن هذه الدار فى الليالى العشر المُقسَمِ بها فى الكتاب العزيز، ودفنُه فى أحد أيامها التى هى أفضل الأيام على الإطلاق؛
ثم نضرع إليه سبحانه أن يبارك فى ذريّته وأهل بيته وعشيرته المُثلى، وأن يصلح بنيه الأفاضلَ، وبناتِه الفُضْلَيَاتِ. إنه سميع مجيب، ونعزًيهم وسائرَ قومهم وعمومَ الترارزة وآلَ بيتنا بقوله تعلى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما)، وبقوله سبحانه: (وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون)، وأذكّر نفسى، وآلَ الفقيد، بقول النبىّ صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه: (إن من أبرِّ البر صلةَ الرجل أهلَ ودِّ أبيه بعد أن يُوَلًِىَ). أخرجه الإمام مسلم فى الصحيح من حديث
عبد الله بن عمر رضى الله عنهما.
وليس لنا إلا أن نقولَ على وجه الرضا والتسليم: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
كتبه المفتى إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدى كان الله له ولمن والاه وليا ونصيرا. آمين.
(5من ذى الحجة الحرام 1439 للهجرة - نواكشوط).