بدأت بتحقيق صحفي استقصائي اشتركت فيه عام 1998 انا والزميل الاخ والصديق الدكتور علي الجابري عندما كنا نعمل في صحيفة نبض الشباب الأسبوعية ، بشغفنا الصحفي وباقتراح رئيس التحرير الدكتور هاشم حسن عميد كلية الاعلام في جامعة بغداد اختير الموضوع المثير ، وكان عن بيوت الدعارة التي انتشرت في حي البتاوين ، حيث تحولت شوارعه الانيقة وبيوته الارستقراطية التي كانت ذات يوم عنوانا للرقي والفخامة الى مباغي دعارة شعبية ومصدرا للامراض الجنسية الخطيرة يرتادها العمال والسوقة والمراهقون وبواقي الوافدين من سودانيين ومصريين الذين لم يغادروا العراق رغم الحرب والحصار ، لم نصدق ما شاهدناه هناك ، و لم نتخيل ان يكون هذا موجودا في قلب بغداد على مسافة لا تبعد كيلو مترا واحدا عن مقرات ومكاتب وقصور الدولة السيادية الرئيسة ، فالنظام السياسي الحاكم ورئيسه تحديدا صارم ، حازم ، محافظ ، قروي التفكير والعادات والتقاليد ، ومن المستحيل ان يسمح باعمال كهذه في اقصى بقعة مهجورة في العراق ، فكيف وهي في قلب عاصمته التي يفخر انها عاصمة العزة والشرف والبطولة والصمود ، بل على مرمى حجر من قصر الحكم ! لكن ذلك لايعني ان بغداد كانت عاصمة فاضلة لا يقربها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، بل كانت مثل كل مدن الدنيا لها خطاياها وشياطينها واسرارها الضالة التي ربما كان بعضها بيوت دعارة شبه سرية متناثرة هنا وهناك تقدم خدمات خاصة لزبائن خاصين ، لكن ذلك مهما بلغ وبالغ واستغرق لا يصل الى حد البغاء العام في أماكن علنية تمارس عملها على عيون الاشهاد دون خوف من قانون او دين او عرف او سلطة ، تجولنا في اغلب تلك البيوت انا واخي وزميلي علي الجابري بادعاء اننا زبائن ، وشاهدنا وحاورنا وصورنا مسترقين بكاميرا اخفيناها عن عيون فتوّات الحي ومراقبي حركته المتربصين ، لنعود ونكتب تحقيقا رائعا قدّرنا انه سيكون قنبلة الموسم ، وبالفعل كان الامر كما توقعناه ، فلم تمض ساعات على صدور الجريدة بمانشيت رئيسي عريض :
'البتاوين الأرض التي سيخسف الله بها ومن عليها' حتى صار حديث الشارع وتوالت على مقر الجريدة الاتصالات حوله ، وفي اليوم ذاته وصل الى مكتب الرئيس صدام حسين ليأمر بعد قراءته باستدعاء الصحفيين سعد الاوسي وعلي الجابري فورا وسؤالهما عما ورد في التحقيق تفصيليا ثم تشكيل لجنة باشراف عدي صدام حسين وضباط تحقيق مختصين و يكون الصحفيان عضوين فيها للتحقيق الشامل في كل بغداد عن حالات الانحراف المشابهة ، ويجب ان تكون النتائج معززة بالوقائع والتسجيلات والصور والفيديوهات لضمان التأكد 100% ، امر عدي ان تتولى القوة التابعة له وهي فدائيوا صدام تنفيذ الامر ومتابعته واعلامه بالنتائج أولا بأول ، وكعادة صدام حسين في التدقيق والمتابعة والاستيثاق فقد كلف الجهازين الأمنيين الرئيسين في البلد وهما المخابرات والامن العام بالامر ذاته كل منهما على حدة وبسرية تامة ، استدعينا في اليوم التالي انا وعلي الجابري الى مقر قيادة الفدائيين دون ان نعلم لماذا وماهو المطلوب منا والى أي مصير سنصير ؟ ، فذهبنا بكامل رعبنا وقلقنا وهواجسنا وارجلنا المرتجفة ! ، الحقيقة اننا لم نستدع بمعنى الاستدعاء ولكن جاءت سيارة الفدائيين الى مقر الجريدة واخذوني شفطا وخطفا دون سؤال ، مجرد كلمتين : انت سعد الاوسي ؟ نعم انا ، تفضل ، فتفضلت فورا دون نقاش ثم سألوني عن علي الجابري فدللتهم عليه فورا وطبعا دون نقاش أيضا ! كي لا اكذب عليكم الان مدعيا انني عارضت ورفضت ان ادلهم على مكانه ، مثلما صار يدعي اغلب سياسيي هذا الزمن من بطولات وهمية مفترضة ! في السيارة التي اخذتنا الى مقر الفدائيين صرت اردد للزميل علي ما سبق ان قالوه لي لاطمئنه وربما لاطمئن نفسي : مجرد استفسار ، ساعة ونعود ! وهو صامت بالكاد يرسم ابتسامة باهتة على وجهه موافقة على كلامي ، لكننا في قرارتنا كنا نعتقد اننا ذاهبون للعقوبة التأديبية التي طالما سمعنا عنها بسبب التحقيق الصحفي الجرئ الذي تورطنا فيه ، والعقوبة التأديبية لمن لايعلم هي عبارة عن حفلة من الضرب المبرح لها اول وليس لها آخر ، ولا تنفع فيها التوسلات والدخيل والقسم بالله ونبيه وآل بيته واوليائه الصالحين ، لكننا تنفسنا قليلا بعد ان وصلنا ووجدناهم يحترموننا ويعاملوننا بلطف غير معهود منهم ، اول ضابط كبير استقبلنا كان العميد الركن نوري غافل الدليمي ويبدو أنه كان من محبي الصحافة والاعلام ومن المعجبين بمشاكساتنا الاعلامية انا وعلي الجابري ، لينهال علينا بعد ذلك سيل من الأسئلة عن مصدر معلوماتنا التي وردت في التحقيق المنشور ومدى دقتها ، فشرحنا لهم كل شيء من طقطق حتى السلام عليكم ، أخبرنا بعدها العميد الركن نوري غافل ان السيد الرئيس حفظه الله امر بتشكيل لجنة للتحقيق الشامل في هذا الامر وقد اختارنا انا وعلي لنكون ضمنها ، لكننا لسنا سوى صحفيين ، والتحقيق الذي امر به السيد الرئيس حفظه الله صار امنيا محضا ، وهو امر لا نفهم فيه شيئا ! لكن النظرة القاسية والمحذرة التي رمقنا بها المسؤول الأمني للفدائيين الذي كنا يجلس بالقرب من العميد نوري جعلتنا نقول فورا :
أننا مستعدين لتنفيذ امر السيد الرئيس ، نحن تحت امركم واذا شئتم نبدأ منذ الان ، استغرقت تلك المهمة العويصة شهرا كاملا ، كنا شبه معطلين من الدوام الجامعي والصحفي اذ كنا معا في جامعة بغداد كلية الآداب ، الجابري قسم الاعلام وانا قسم علم الاجتماع ، الى ان تنتهي اعمال اللجنة والتي لم نكن فيها سوى كومبارس ، لا دور ولا معنى لوجودنا بينهم ، ولكنهم كانوا محترفين بحق وتوصلوا الى نتائج مبهرة كشفت المعلن والمستور عن تلك البيوت المشبوهة ، وعلمنا بعد ذلك ان جهات أخرى كانت تعمل على نفس الامر وتبحث في مسارات وسبل أخرى بعيدا عنا ، بعد ان وضعت التقارير الثلاثة امام الرئيس صدام حسين 'تقارير الفدائيين والامن والمخابرات' قرأها بامعان وانزعج كثيرا مما كشفه احد التقارير عن وجود تجارة رقيق حقيقية يقوم بها هؤلاء القوادون لتصدير مراهقات عراقيات عذراوات دون الثامنة عشر من العمر الى دول الخليج لبيعهن في مزاد نخاسة جنسية ! وقيل انه من شدة غضبه كتب في هامش التقرير :
'تقطع الرؤوس العفنة' ، وامر ان يوكل الفدائيون بالتنفيذ ، لقد تطور الموضوع بسرعة وبشكل تصاعدي درامي لم يكن بحسباننا حين عملنا التقرير ، ولو كنا نعلم او حتى نخمن لكتمناه او مزقناه ، ولتذهب الصحيفة الى الجحيم ، فرغم ادانتنا لما رأيناه في بيوت البتاوين وقذارة احوالها وروائح الامراض الجنسية التي كانت تفوح من زواياها ، الا اننا لم نتخيل ان يصل الامر الى حد قطع الرؤوس ، فانا لا اعتقد ان الامر يستحق عقوبة الموت المبالغ بها جدا في مثل هذا الامر وكان يمكن احالتهم الى المحاكم العادية لتأمر بسجنهم حسب القانون ، او حتى تعريضهم للعقوبة التأديبية ، لكن الرئيس صدام الحازم الشديد الباتر في قراراته لم يكن ليقبل باقل من تلك العقوبة كرادع خاصة بعد ان شاع في الأوساط العراقية قول احد سفهاء الكويت ان الماجدة العراقية صارت بعشرة دنانير ! وصحت بغداد بعد أيام على خبر ان الفدائيين قطعوا رأس 40 قوادا وقوادة ووضعوا جثثهم على أبواب بيوتهم في أكياس قمامة ، وتداول الناس أسماء المعدومين فتبين انهم جميعا من العريقين في المهنة والاشهر في مناطقهم ، ولم تنم عاهرات بغداد تلك الليلة من رعب الاخبار ، حيث بتن يتلمسن رقابهن بعد ان شعرن ان الدور سرعان ماسيأتيهن ، بل قرر بعضهن التوبة الفورية فلبسن الحجاب ولازمن سجادة الصلاه.